حرصت إيطاليا في مواقف عديدة على تأكيد استمرار دعمها لتونس في مواجهة الانتقادات الغربية، كان آخرها في 20 مارس الجاري، عندما طالب وزير الخارجية الإيطالي انطونيو تاياني صندوق النقد الدولي بالإفراج عن قرض قيمته 1.9 مليار دولار لتونس. وسبق ذلك دعوة رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني الاتحاد الأوروبي، في 16 من الشهر نفسه، لتقديم دعم فوري لتونس التي تواجه أزمة اقتصادية حادة. كما كشفت تقارير إعلامية إيطالية عن طلب ميلوني من بعض الدول مساعدة تونس، فضلاً عن مطالبتها السفارة الإيطالية في واشنطن والمسئولين الإيطاليين في صندوق النقد الدولي بإقناع إدارة الصندوق بتمرير قرض عاجل للأخيرة.
تزايد الضغوط
تأتي التحركات الإيطالية تجاه دعم تونس لمواجهة الأزمة السياسية والاقتصادية التي تمر بها في الوقت الراهن، بالتوازي مع تصاعد حدة الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية على تونس بسبب الإجراءات التي تتحذها السلطات التونسية على الساحة الداخلية، خاصة بعد اتساع نطاق الخلافات بين تونس والدول الأوروبية، على نحو بدا جلياً في القرار الذي اتخذه الرئيس التونسي قيس سعيّد، في 18 فبراير الفائت، بطرد الأمينة العامة للكونفدرالية الأوروبية للنقابات ايستر لينش، بعدما شاركت في تظاهرة نظمها الاتحاد العام التونسي للشغل وألقت خلالها كلمة انتقدت فيها السلطات.
كما أن التحركات الإيطالية التي تهدف إلى تقديم مزيد من الدعم لتونس جاءت بعد فترة وجيزة من إعلان فرنسا الانسحاب من منطقة الساحل، على نحو يمكن أن يفرض تداعيات سلبية عديدة ليس فقط على تلك المنطقة، وإنما أيضاً على دول الجوار، لا سيما ليبيا وتونس.
اعتبارات رئيسية
يمكن القول إن ثمّة العديد من الاعتبارات التي تدفع إيطاليا إلى تقديم مزيد من الدعم لتونس، يتمثل أبرزها في:
1- محاصرة موجات اللجوء المستمرة: ترى روما أن تعزيز التعاون مع تونس يمثل آلية استراتيجية في مكافحة الهجرة غير الشرعية التي تفرض أزمة مزمنة للحكومات الإيطالية المتعاقبة بسبب التداعيات التي تنتجها على الساحة الداخلية على المستويات المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. وقد تزايد قلق روما من عمليات الهجرة، خاصة بعد وصول ما يقرب من 32 ألف مهاجر بالقوارب المتهالكة إلى السواحل الإيطالية خلال عام 2022، منهم 18 ألفاً من تونس. ومن دون شك، فإن ذلك يزيد من حدة الضغوط الاقتصادية على إيطاليا، وهو ما يفسر حرصها على تقديم مزيد من الدعم لتونس، من أجل تغزيز قدرتها على مكافحة الهجرة غير الشرعية، والدفاع عن دعوة الرئيس قيس سعيد التي أطلقها مطلع مارس الجاري، وطالب خلالها بتشديد القيود وتطبيق القوانين بصرامة على المهاجرين القادمين من دول أفريقيا جنوب الصحراء ممن يقيمون في تونس بطرق غير شرعية.
ولذا، تسعى روما بقوة نحو تدعيم جهود استقرار تونس، وبدا ذلك في تصريحات رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، في 22 مارس الجاري، التي قالت فيها إن “تونس في وضع مالي معقد للغاية، وإذا لم يتوقف فإننا نخاطر بتدفق هجرة لا يمكن لأحد أن يوقفها”، وحذرت مما أسمتها “عواقب مقلقة لظاهرة تدفق المهاجرين من تونس إلى بلادها”.
ويعني ذلك أن روما لم تعد تستبعد أن تؤثر الأزمة الاقتصادية على قدرة السلطات التونسية على تحقيق الاستقرار، وهو ما سوف ينعكس بالطبع على مدى إمكانية اتخاذ إجراءات حاسمة لمنع تدفق اللاجئين غير الشرعيين إلى الدول الأوروبية وفي مقدمتها إيطاليا.
2- توسيع نطاق التعاون الاقتصادي: لا ينفصل التوجه الإيطالي نحو تطوير العلاقات مع تونس، ودعم حكومة الرئيس قيس سعيدّ، عن رغبة روما في تأمين مصالحها الاقتصادية في تونس، حيث تُعد إيطاليا ثاني أكبر مستثمر أجنبي في تونس بأكثر من 900 شركة. وتشير تقارير عديدة إلى أن روما منذ عام 2021 أصبحت الشريك التجاري الأول لتونس من حيث حجم التجارة متجاوزة بذلك دولاً أخرى مثل فرنسا. ويمثل التعاون في قطاع الطاقة محوراً رئيسياً في العلاقات الثنائية بين إيطاليا وتونس، وهو ما انعكس في إعلان شركة تشغيل الكهرباء الإيطالية “تيرنا” والمفوضية الأوروبية، في 8 ديسمبر الماضي، أن الاتحاد الأوروبي سيدعم مشروعاً لمد خط كهربائي تحت البحر بين إيطاليا وتونس بتمويل يبلغ نحو 307 ملايين يورو (324 مليون دولار).
3- تعزيز التواجد في منطقة المغرب العربي: تسعى روما إلى تعزيز وجودها في منطقة المغرب العربي، التي تحظى باهتمام خاص من جانب الدول الغربية لاعتبارات استراتيجية وأمنية عديدة. ويبدو أن روما ترى أن المجال مهيأ لتحقيق ذلك، خاصة في حالة استغلال توتر العلاقات بين فرنسا والعديد من الدول المغاربية بسبب قضية التأشيرات، وغيرها من القضايا الخلافية، بالإضافة إلى توظيف التراجع الملحوظ في العلاقات بين تونس والولايات المتحدة الأمريكية التي اتجهت مؤخراً نحو تكثيف ضغوطها على الأولى بسبب بعض الإجراءات التي تتخذها على الساحة الداخلية.
4- تأمين المصالح في ليبيا: تبدي إيطالياً اهتماماً خاصاً بالتطورات التي تشهدها الساحة الليبية، على المستويات المختلفة، وترى أنها يمكن أن تفرض ارتدادات مباشرة على أمنها ومصالحها. ومن هنا، فإنها تبذل جهوداً حثيثة من أجل تطوير التعاون الثنائي مع دول الجوار الليبي، لا سيما تونس والجزائر، فضلاً عن أنها ترى أن استقرار تلك الدول يمثل آلية مهمة لدعم الجهود التي تبذل من أجل الوصول إلى تسوية للأزمة الليبية وبالتالي تأمين المصالح الإيطالية في ليبيا.
5- رفع مستوى التنسيق ضد التنظيمات الإرهابية: رغم الهزائم والضربات القوية التي تعرضت لها التنظيمات الإرهابية الرئيسية، على غرار تنظيمى “داعش” و”القاعدة”، إلا أن إيطاليا لا تستبعد أن تحاول تلك التنظيمات اختراق الإجراءات الأمنية التي تتخذها السلطات في الدول الأوروبية من أجل تعزيز قدرتها على تنفيذ عمليات إرهابية داخل تلك الدول مجدداً. ومن هنا، فإن روما ترى أن رفع مستوى التنسيق الأمني مع دول جنوب المتوسط يمثل آلية مهمة لتقليص قدرة تلك التنظيمات على شن مثل هذه الهجمات المحتملة مجدداً.
6- تطوير العلاقات الثنائية العسكرية: وهو ما يمثل أحد الأهداف التي تحظى بأولوية بالنسبة للدولتين، خاصة أن تونس ترى أنه يمكن الاعتماد على روما من أجل تطوير قدرات الجيش التونسي ودوره التنموي، وهو ما أكده وزير الدفاع التونسي عماد مميش خلال لقائه نظيره الإيطالي (السابق) لورينزو جويريني، في 15 مارس 2022، بقوله أن بلاده ترغب في تطوير التعاون الثنائي العسكري مع روما.
سياسة مستقرة
على ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن الدعم الذي تقدمه إيطاليا إلى تونس على مستويات مختلفة، سوف يتواصل خلال المرحلة القادمة، خاصة في ظل السياسة التي تتبناها الحكومة الإيطالية الحالية والقائمة على ضرورة توسيع نطاق العلاقات الثنائية مع دول الجوار، في ظل الاهتمام المشترك بمواجهة العديد من التحديات، ولا سيما الهجرة غير الشرعية، والتنظيمات الإرهابية، فضلاً عن ما فرضته الحرب الروسية – الأوكرانية من تداعيات على الأرض ساهمت في تعزيز هذا التوجه الإيطالي نحو دول جنوب المتوسط.