تسعى تركيا إلى زيادة قواعدها العسكرية في شمال العراق، خاصة مع تصاعد قوة حزب العمال الكردستاني، الذي أحكم تحصيناته في شمال العراق، لتقليص حدة الضربات العسكرية التي توجهها أنقرة.
وفي هذا السياق، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 28 ديسمبر الجاري، أن بلاده ستعزز قواعدها الثابتة التي أقامتها حديثاً في شمال العراق خلال الأشهر الماضية، وأضاف: “أنشأنا طُرُقاً تمتد مئات الكيلومترات في شمال العراق لقواعدنا الثابتة. ننجز نفس الأعمال في أماكن جديدة نسيطر عليها”.
ويبدو أن هذا التوجه سوف يفرض تأثيرات مباشرة على المسارات المحتملة للعلاقات بين تركيا من جهة والعراق وحزب العمال الكردستاني من جهة أخرى.
متغيرات رئيسية
يمكن القول إن ثمة متغيرات رئيسية كان لها دور في اتجاه تركيا نحو تبني هذا الخيار، يتمثل أبرزها في:
1- تصاعد الاستياء الداخلي في العراق ضد الوجود التركي: تتصاعد حدة الاستياء في أوساط العديد من النخب السياسية والبرلمانية العراقية تجاه العمليات العسكرية التركية في شمال العراق، حيث تعدها انتهاكاً لسيادة العراق، وتكريساً لـ”الاحتلال” التركي لمناطق في شمال البلاد، وهو ما يمكن أن يشكل عامل ضغط على مستقبل الوجود العسكري التركي في العراق.
وتجدر الإشارة إلى أن ثمة ضغوطاً موازية تمارسها القوى الموالية لإيران في الداخل العراقي لتقليص الوجود العسكري التركي في شمال العراق، ويتوقع تصاعد هذه الضغوط خلال المرحلة المقبلة بعد تقدم الجماعات الموالية لإيران في انتخابات المجالس المحلية العراقية التي أُجريت في 18 ديسمبر 2023، على نحو دفع تركيا إلى الاستعداد مسبقاً لمواجهة هذه الضغوط عبر تعزيز وجودها العسكري في شمال العراق.
2- مواصلة هجمات حزب العمال الكردستاني: لا ينفصل إعلان الرئيس أردوغان عن زيادة القواعد العسكرية في شمال العراق عن المواجهات الميدانية التي لا تزال على أشدها بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني في شمال العراق، واستمرار الأخير في شن هجمات في الداخل التركي أيضاً، وآخرها الهجوم الذي وقع مطلع أكتوبر الماضي، واستهدف مباني تابعة لوزارة الداخلية في أنقرة.
كما تمكن الكردستاني، في 23 ديسمبر الجاري، من قتل 6 جنود أتراك وإصابة آخرين في هجوم استهدف قاعدة عسكرية تركية بالقرب من هاكورك في شمال العراق. ولذلك، فإن إعلان تركيا عن توسيع قواعدها في العراق يأتي في إطار محاولتها وضع حدّ نهائي للعمليات العسكرية التي يشنها الكردستاني ضد المواقع والأهداف التركية سواء في شمال العراق أو في الداخل التركي.
ويتبنّى الرئيس التركي خيار التوسع العسكري في شمال العراق لأسباب تتعلق برؤية حزب العدالة والتنمية لأهمية دور تركيا في عرقلة تحركات حزب العمال الكردستاني وروافده في بعض دول الإقليم، وخاصة مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي تراهن على دعم تجربة الإدارة الذاتية التي نجحت في تمريرها في مناطق شمال شرق سوريا، وتخشى تركيا من تكرار التجربة في شمال العراق. ولذلك، فإن خيار التمدد العسكري وزيادة وتيرته يُعد جزءاً من الاستراتيجية التركية لمحاصرة المليشيات الكردية.
3- اتساع نطاق الخلافات حول بعض الملفات: على الرغم من أنّ العلاقات التركية-العراقية شهدت تطوراً لافتاً على المستويين الاقتصادي والأمني، إلا أن ثمة تباينات بين البلدين حيال بعض الملفات الخلافية، ومنها ملف المياه، واستمرار تعطل إعادة استئناف تصدير نفط إقليم كردستان عبر ميناء جيهان التركي، بعد إصدار محكمة التحكيم الدولي في باريس حكماً لصالح العراق يقضي بدفع أنقرة تعويضات لبغداد بقيمة 1.5 مليار دولار عن صادرات نفط كردستان العراق عبر ميناء جيهان التركي دون موافقة بغداد خلال المدة من 2014 إلى 2018. وتخشى تركيا أن تؤثر هذه القضايا الخلافية على وضع قواعدها العسكرية في شمال العراق، بحيث تعمل بغداد على توظيف ورقة القواعد للضغط على أنقرة في هذه الملفات الخلافية.
4- استمرار الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة: يأتي إعلان أردوغان عن التوسع المحتمل لقواعد عسكرية جديدة شمال العراق، في ضوء حرصه على توظيف انشغال القوى الدولية والإقليمية بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لتعزيز الدور العسكري التركي في شمال العراق، فبينما تواجه واشنطن ضربات عسكرية متواصلة على قواعدها العسكرية في سوريا والعراق، تنخرط إيران المنافس الإقليمي لأنقرة على الساحة العراقية في مواجهات مع واشنطن، التي بدأت بدورها في اتخاذ إجراءات لردع تحركات أذرع إيران في الإقليم.
أهداف متعددة
تسعى تركيا عبر زيادة القواعد العسكرية في شمال العراق إلى تحقيق أهداف رئيسية خمسة: أولها، محاصرة حزب العمال الكردستاني، حيث تعتبر أنقرة أن الأخير هو التنظيم الذي انبثقت عنه مختلف التنظيمات الكردية في الإقليم، ولذلك يكشف إعلان أنقرة عن توسع قواعدها العسكرية في شمال العراق عن رغبتها في مواصلة استهداف مواقع الكردستاني الأساسية ومواقع الوحدات والقوات والتنظيمات التابعة له، وكذلك تكثيف الضغط العسكري على مواقع الحزب في شمال العراق.
وثانيها، منع إقامة دولة كردية، إذ تعمل تركيا بالأساس على تفكيك الكيانات الكردية في الإقليم. ولذلك، فإن تصريحات أردوغان تبدو في جوهرها رسالة مباشرة للحكومة العراقية، في الوقت الذي تتعالى فيها الدعوات لإنهاء وجود القوات الأجنبية على الأراضي العراقية، بأن تركيا لن تقلص قواتها بل ستتجه نحو مزيد من التوسع خلال المرحلة المقبلة لتطوير وجودها العسكري وعرقلة المحاولات الانفصالية الكردية.
وثالثها، تعزيز النفوذ التركي على المستوى الإقليمي، حيث يفتح الوجود العسكري التركي على الساحة العراقية الطريق أمام أنقرة لتصبح طرفاً في التوازنات السياسية الرئيسية في الإقليم.
ورابعها، موازنة النفوذ الإيراني في العراق، إذ تتضارب المصالح التركية والإيرانية بشكل واضح على الساحة العراقية، حيث يسعى كل طرف لتوسيع نطاق حضوره باعتباره أحد المداخل المهمة لتعزيز النفوذ الإقليمي.
وخامسها، توظيف الأزمة الكردية في توحيد القواعد الانتخابية لمصلحة حزب العدالة والتنمية، والاستفادة من التصعيد ضد الأكراد في جذب القواعد القومية، وذلك قبيل الانتخابات المحلية التي سوف تجرى في مارس 2024.
ختاماً، يمكن القول إن تصريحات أردوغان تأتي كاشفةً عن مضيّ تركيا قدماً خلال المرحلة القادمة في تصعيدة حدة الأزمة مع الأكراد على الساحة العراقية، خاصة مع تصاعد هجمات حزب العمال الكردستاني في الداخل التركي، بالإضافة إلى تزايد المخاوف التركية من نجاح الأكراد في شمال شرق سوريا في تمرير الحكم الذاتي، على نحو تراه أنقرة تهديداً لأمنها القومي.