يمثل فرار أربعة عناصر موالين لتنظيم القاعدة من السجن المركزي في نواكشوط بموريتانيا نقطة تحول هامة في استراتيجية تنظيم القاعدة تجاه موريتانيا، فعلى مدى أكثر من عقد مضى لم تتعرض البلاد لعمليات إرهابية، حيت هدفت هذه العملية إلى تهريب قيادات التنظيم من السجن، وجاءت بالتزامن مع الظهور الإعلامي لزعيم التنظيم أبو عبيدة يوسف العنابي، عبر قناة “فرانس 24″، في 6 مارس الجاري؛ حيث أكد في حواره عبر القناة الفرنسية على استراتيجية للتنظيم تهدف إلى توسيع تحركاته في المنطقة. وبرغم أنه لم يُشر صراحة إلى موريتانيا، لكن الأجهزة الأمريكية كانت قد كشفت في عام 2016 عن وثائق للتنظيم تؤكد على اتفاق بين الأجهزة الموريتانية والتنظيم بالهدنة وعدم الاعتداء، ومن ثم أشار هذا الهجوم إلى انتهاء هذه الهدنة.
في 6 مارس الجاري، أعلنت وزارة الداخلية الموريتانية عن عملية إرهابية لتهريب أربعة إرهابيين من السجن المركزي في نواكشوط بعدما هاجموا الحرّاس، مما أدى إلى تبادل إطلاق نار قُتل خلاله عنصران من الحرس الوطني، فيما أُصيب آخرون بجروح، وهو ما يثير التساؤلات حول دلالات الهجوم في هذا التوقيت.
دلالات الهجوم
كان فرار السجناء الأربعة، في 5 مارس، من السجن المركزي في نوكشواط بموريتانيا، وحصولهم على دعم من الخارج لتسهيل عملية الهروب، هو أول حدث إرهابي تشهده البلاد منذ أكثر من اثني عشر عاماً، إذ لم تشهد موريتانيا على مدى أكثر من عقد أي عملية إرهابية، ومن ثم يشير هذا الهجوم إلى العديد من الدلالات الهامة، ومن أهمها:
1- استغلال الوجود المتنامي للتنظيم في شمال مالي، حيث استفاد تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي من حالة الفراغ الأمني في شمال مالي في تعزيز وجوده بها، ولا سيما مع استمرار اعتقال عناصر تابعين للتنظيم على مدى العامين الماضيين، مما يشير إلى وجود خلايا للتنظيم لا تزال تتلقى التوجيهات من الخارج. وقد أشارت بعض التقارير إلى أن التخطيط للعملية وترتيباتها اللوجيستية وتمويلها قام به التنظيم مستغلاً حضوره في شمال مالي. وبرغم أن التنظيم لم يعلن مسؤوليته عن العملية حتى الآن، غير أن العملية هدفت إلى تهريب عناصر تابعين للتنظيم من السجن، وهي عناصر تلقت في السابق تدريبات عسكرية في معسكرات القاعدة قبل أكثر من عشر سنوات في شمال دولة مالي. وفي الواقع، يبدو أن العملية كانت تستهدف تهريب القيادات المؤثرين الذين يقودون جهود التنظيم في موريتانيا، ربما لأن المجموعة التي اخترقت الحدود الموريتانية لم تكن مجهزة بشكل كافٍ من حيث العتاد للقيام بعملية كبيرة وتهريب حوالي 30 إرهابياً في هذا السجن، لكن المؤكد أن هناك اختراقاً تم للأجهزة الأمنية، مما ساعد عناصر محددة على الفرار.
وتشير التقارير إلى أن اثنين من بين العناصر الهاربين هما من العناصر الذين تعدهم أجهزة الأمن الموريتانية من العناصر الخطرة، حيث قاما بتنفيذ عمليات إرهابية ضد الجيش الموريتاني، قبل عام 2011، ولا سيما القيادي في التنظيم محمد عبدالرسول، وهو الذي حكم عليه القضاء الموريتاني بالإعدام بعد إدانته بتهمة حمل السلاح ضد موريتانيا، وذلك إثر مشاركته في هجوم على حامية للجيش الموريتاني في منطقة “لمغيطي”، قرب الحدود مع الجزائر عام 2005. بالإضافة إلى دور ولد السالك، المحكوم عليه بالإعدام، وذلك إثر مشاركته في عملية نفذها التنظيم عام 2011، لتفجير القصر الرئاسي بنواكشوط عبر سيارتين مفخختين، بهدف اغتيال الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبدالعزيز. بالإضافة إلى وجود اثنين من المدانين بتهمة الإرهاب خلال عامي 2020 و2021.
2- التنسيق بين التنظيم والخلايا النائمة في موريتانيا، فبرغم أن موريتانيا لم تشهد على مدى العقد الماضي أي عملية إرهابية من جانب تنظيم القاعدة، لكن ثمة ما يشير إلى دور الخلايا النائمة التابعة للتنظيم في موريتانيا، حيث كان الهروب من السجن بمساعدة من الخارج، ويرجع ذلك إلى حقيقة أن التنظيم نجح في تجنيد عناصر إرهابية من موريتانيا يقاتلون في صفوف التنظيمات الإرهابية العاملة في منطقة الساحل على مر السنين، وربما نجحت هذه العناصر في التغلغل إلى الداخل الموريتاني، أو الاتصال بالعناصر والخلايا النائمة في الداخل، وقد أشارت بعض التقارير الموريتانية إلى نجاح الإرهابيين في تهريب أسلحة صغيرة إلى السجن ليستخدموها لمهاجمة الحراس.
3– انتهاء الهدنة أو “المتاركة” بين التنظيم وموريتانيا، حيث أشار زعيم التنظيم، أبو عبيدة يوسف العنابي، خلال ظهوره الإعلامي عبر قناة “فرانس 24” قبل أيام، إلى انتهاء الهدنة. وبرغم أن الخطاب كان موجهاً للأجهزة الأمنية في الجزائر لكن يبدو أن هذا الخطاب حمل رسائل لعناصر القاعدة لتوسيع العمليات في المنطقة، فيما اعتبر مراقبون أن تنفيذ التنظيم هذه العملية في هذا التوقيت يشير إلى انتهاء الهدنة أو “المتاركة” التي كانت قائمة مع موريتانيا منذ عام 2012، مما يعني سعي التنظيم لتوسيع رقعة المواجهات مع حكومات المنطقة لتمتد حتى موريتانيا التي كانت بمنأى عن دائرة العنف والفوضى الدموية في المنطقة. وكانت وثائق حصلت عليها القوات الخاصة الأمريكية عندما داهمت مخبأ أسامة بن لادن في باكستان عام 2011 ونشرتها الحكومة الأمريكية في مارس 2016، عن خطة لإعداد اتفاق سلام بين التنظيم وحكومة موريتانيا تضمن إطلاق السلطات الموريتانية سراح كل سجناء القاعدة، والتعهد بعدم شن أي هجوم على جناح التنظيم من أراضيها.
ويبدو أن الأولوية لدى التنظيم الآن هي تهريب العناصر التابعة له في السجون الموريتانية، ربما في إطار ترتيبات وخطة يعدها التنظيم لتوسيع عملياته في المنطقة، وقد تكون موريتانيا من بينها، وربما يمهد التنظيم لإسناد بعض المهام لهذه العناصر التي قام بتهريبها، خاصة أن عناصر مدربة على تنفيذ عمليات اغتيال للقادة ورؤساء الدول كما سبقت الإشارة، ويستنتج من ذلك أن التنظيم يخطط لتنفيذ عمليات اغتيال لقادة ورؤساء دول خلال الفترة القادمة، وقد يكون الهدف موريتانيا أو دولاً أخرى.
انعكاسات محتملة
يتوقع أن يكون لهذا الهجوم تداعيات على الأمن والاستقرار في منطقة المغرب العربي والساحل الأفريقي، وذلك على النحو التالي:
1- احتمالات تصعيد التنظيم عملياته في موريتانيا ودول الجوار، حيث إن قدرة التنظيم على اختراق الأجهزة الأمنية الموريتانية، تؤكد وجود شبكة واسعة من العناصر الأمنية والمدنيين الذين شاركوا في تسهيل عملية الهروب، مما قد يشجع التنظيم على تنفيذ عمليات أخرى، ناهيك عن أن قدرة تنظيم القاعدة على التخطيط وتهريب الإرهابيين الأربعة يعزز من الثقة لدى أتباعه وطمأنتهم بقدرة التنظيم على حمايتهم، وهو ما من شأنه أن يشجع التنظيم على توسيع وجوده داخل موريتانيا، ولا سيما من خلال الاتصال والتواصل مع الخلايا النائمة التي يمكنها في حال تلقي أوامر من التنظيم تنفيذ عمليات إرهابية في الداخل الموريتاني.ناهيك عن الهشاشة الحدودية التي يمكن أن يتغلغل منها التنظيم، لا سيما الهجمات الإرهابية المتقطعة على طول الجزء الجنوبي مع بوركينافاسو ومالي اللتين سجلتا في الآونة الأخيرة حوادث إرهابية متنامية. كما أن الطرق والممرات بين موريتانيا والسنغال قد توفر الملاذ الآمن للتنظيم، حيث يمكن للعناصر الهاربة التسلل مرة أخرى عبر هذه المنطقة وتنفيذ عمليات إرهابية جديدة في موريتانيا أو بعض دول الجوار مثل السنغال، التي لم تعد هي أيضاً بمنأى عن عمليات التنظيم الذي تتنامى قدراته العملياتية في المنطقة.
هذا بخلاف احتمالية تنفيذ عمليات إرهابية في الجزائر، وهي لا تزال محط أنظار التنظيم، ويراقب تطورات الأوضاع فيها، وخاصة أن التنظيم لا يزال يحتفظ بخلايا نائمة وعناصر تابعة فيها ويمكنه في وقت ما توجيه تعليمات لهذه الخلايا بتنفيذ عمليات إرهابية أو هجمات الذئاب المنفردة. ومع ذلك، فإن توقيت تنفيذ هذه العمليات يخضع لحسابات وأولويات وخطة التحرك التي ينتهجها التنظيم في ظل انخراطه المتزايد في صراعاته مع تنظيم داعش في منطقة الساحل.
2- توسّع التنظيم في عمليات خطف الرهائن بالمنطقة، حيث أبدت العديد من القوى الدولية قلقها من تنفيذ عمليات إرهابية في موريتانيا. فعلى سبيل المثال، حذرت لندن رعاياها في موريتانيا ودعتهم إلى اليقظة في جميع الأوقات، واتّباع أي نصيحة محددة من السلطات الأمنية المحلية، مشيرة إلى سهولة اختراق الحدود في منطقة الساحل -التي تعد موريتانيا جزءاً منها- وقدرة الجماعات الإرهابية على العمل عبر الحدود وتنفيذ هجمات في أي مكان بالمنطقة، مع وجود تهديد بالاختطاف من قبل الجماعات المنتسبة للقاعدة وغيرها من الجماعات الإرهابية الأخرى. فيما أعلن زعيم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، أبو عبيدة يوسف العنابي، أن تنظيمه يحتجز رهينة فرنسية، وأن قنوات التفاوض مفتوحة أمام الحكومة الفرنسية للتفاوض على الرهينة، وهو ما يشير إلى أن التنظيم قد يتجه في المرحلة القادمة لزيادة عملياته في خطف الرهائن، وذلك بهدف زيادة موارده المالية من الفدية وتمويل عملياته الإرهابية في المنطقة.
3- زيادة التنسيق الأمني والاستخباراتي بين دول المنطقة، حيث يُتوقع أن تتجه موريتانيا إلى تعزيز علاقاتها الأمنية مع دول مثل المغرب والجزائر ومالي والسنغال لتعزيز المراقبة الأمنية على دول الحدود، وتعزيز جهود التعاون في تبادل المعلومات الاستخباراتية في الوقت المناسب، واتخاذ خطوات استباقية قبل تنفيذ عمليات إرهابية داخل أراضيها. لذلك، يرجح بعض الخبراء أن تدفع العملية الإرهابية الأجهزة المغربية لمراجعة خطة تأمين السجون، والتعامل الحازم مع تحركات التنظيم في الداخل الموريتاني.
تكثيف العمليات
جملة القول، كشف التخطيط المسبق والتنسيق بين عناصر التنظيم داخل وخارج موريتانيا عن تنامي قدرة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي على اختراق الساحة الموريتانية، وأن موريتانيا لم تعد محصنة ضد العمليات الإرهابية للتنظيم، وهو ما يفرض تحديات جديدة أمام الأجهزة الأمنية الموريتانية للحفاظ على الأمن والاستقرار في البلاد. وتضيف حالة الفراغ الأمني في شمال مالي تحديات متنامية، حيث يُتوقع في ظل استمرار الأوضاع الأمنية المتردية أن يتصاعد نشاط تنظيم القاعدة داخل موريتانيا، خاصة أن موريتانيا هي إحدى الدول الأعضاء في مجموعة الساحل الخماسية لمكافحة الإرهاب في المنطقة، وقد يلجأ التنظيم إلى تكثيف عملياته فيها بهدف الضغط عليها لسحب قواتها من المجموعة كما فعلت بعض الدول مثل مالي. ويبدو أن من أهم دوافع التنظيم لتوسيع عملياته باتجاه موريتانيا بشكل عام، أنه بدأ يشعر بنوع من الثقة بعد إعادة ترتيب صفوفه في ظل الفراغ الأمني في شمال مالي وبعد الخروج الفرنسي والتحول الذي تشهده السياسة الفرنسية بمنطقة الساحل، بعد الخسائر التي تعرض لها بسبب الضربات العسكرية الفرنسية “استراتيجية قطع الرؤوس” التي كبدته خسائر كبيرة، وفي الوقت نفسه، لا يُستبعد أيضاً فرضية انتهاء اتفاق بين الأجهزة الأمنية الجزائرية والموريتانية مع التنظيم على عدم تنفيذ عمليات إرهابية في الجزائر وموريتانيا، والمرجح أن التنظيم قد استفاد من حالة الفراغ الأمني في شمال مالي في إعادة ترتيب صفوفه بشكل عزز من ثقته في قدرته على العودة وتنفيذ عمليات إرهابية في المنطقة.