إدارة التوازنات:
دلالات زيارة رئيس الأركان الإيراني إلى العراق

إدارة التوازنات:

دلالات زيارة رئيس الأركان الإيراني إلى العراق



تسعى إيران عبر زيارة رئيس هيئة الأركان في الجيش الإيراني اللواء محمد باقري إلى العراق، خلال الفترة من 3 إلى 5 ديسمبر الجاري، إلى تحقيق أهداف أربعة رئيسة تتمثل في تكريس الحضور العسكري الإيراني في العراق، وممارسة ضغوط على الوجود الأمريكي، وتوجيه تحذيرات قوية إلى إسرائيل، ورفع مستوى التنسيق مع العراق في مواجهة المعارضة الإيرانية.

موقع خبرانلاين: ماذا اقترح القائد العسكري الإيراني الأعلى في العراق: تفاصيل الزيارة الرسمية للواء باقري إلى بغداد

إذ تكتسب الزيارة أهميتها من توقيتها، حيث تأتي في ظل ظروف وتطورات جديدة طرأت على صعيد العلاقات بين إيران والعراق، والأولى وكل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. وربّما من هنا يمكن القول إن إيران سعت عبر تلك الزيارة، التي التقى فيها باقري حتى الآن بكل من وزير الدفاع ووزير الداخلية ورئيس هيئة الأركان في الجيش العراقي، إلى توجيه رسائل إلى الخارج والداخل في آنٍ واحد، تتعلق بمحاولاتها تأكيد نفوذها في العراق في وقت تتصاعد فيه حدة التوتر مع واشنطن وتل أبيب بسبب استمرار الحرب في قطاع غزة، وموازنة الأدوار التي يقوم بها الحرس الثوري داخل دول الأزمات، وفي مقدمتها العراق وسوريا ولبنان واليمن.

وكالة أنباء “فارس”: اللواء باقري في بداية زيارته للعراق: هدف هذه الزيارة هو بحث توسيع نطاق العلاقات العسكرية الثنائية

أهداف عديدة

تسعى إيران عبر تلك الزيارة إلى تحقيق أهداف عديدة يتمثل أبرزها في:

1- تأكيد النفوذ داخل بغداد: كان لافتاً أن الزيارة بدأت في الوقت الذي بدأت تتعرض فيه القواعد الأمريكية في العراق لمزيد من الهجمات التي تشنها المليشيات الشيعية الموالية لإيران، بعد انتهاء فترة الهدنة في قطاع غزة واستئناف العمليات العسكرية الإسرائيلية. وهنا، فإن قيام باقري بهذه الزيارة في هذا التوقيت يعني أن إيران تسعى إلى توجيه رسالة بأن لديها نفوذاً قوياً داخل العراق، وأن هذا النفوذ مكّنها من إدارة قسم من تصعيدها غير المباشر مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية عبر هذه الساحة، ومن خلال تلك المليشيات، رغم أن إيران في الأساس ما زالت حريصة على نفي ضلوعها في تلك الهجمات، وتأكيد أن هذه الهجمات تتم بناء على قرارات تتخذها تلك المليشيات بشكل مستقر.

2- استهداف الحضور الأمريكي في المنطقة: وهنا فإن هذا الاستهداف لا يقتصر على الجانب العسكري فحسب عبر الهجمات العسكرية التي تتعرض لها القواعد الأمريكية في العراق وسوريا، وكان آخرها الهجوم الذي تعرّضت لها قاعدة “خراب الجير” في شمال شرق سوريا في 3 ديسمبر الجاري، وإنما يمتد إلى الجانب السياسي أيضاً من خلال شنّ حملة جديدة ضد الولايات المتحدة الأمريكية وسياستها في المنطقة، حيث بدأت إيران تركز على أن الأخيرة ستكون الخاسر الأكبر من التطورات التي تشهدها المنطقة في الفترة الماضية، في حين أن إيران وحلفاءها سوف يجنون مكاسب استراتيجية لا تبدو هينة.

هذه المقاربة تحديداً بدت جلية في التصريحات التي أدلى بها المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي خلال لقائه مع عناصر من مليشيا الباسيج، في 29 نوفمبر الفائت، والتي قال فيها إن “عمليات طوفان الأقصى استهدفت إسرائيل على الظاهر، إلا أن هدفها في الواقع هو اجتثاث أمريكا”، مضيفاً: “إن هذه العمليات استطاعت إرباك جدول السياسات الأمريكية في المنطقة، وسوف تستمر بإذن الله”.

3- رفع مستوى التنسيق في مواجهة المعارضة: تُبدي إيران اهتماماً خاصاً بتطوير التعاون الأمني مع العراق، من أجل تقليص حدة التهديدات التي يفرضها وجود بعض الجماعات الإيرانية المعارضة المسلحة في مناطق داخل العراق. وقد وجّهت إيران لهذه الجماعات اتهامات مباشرة بالمسؤولية عن تأجيج الاحتجاجات التي اندلعت في منتصف سبتمبر 2022 واستمرت حتى بداية عام 2023، عبر تهريب الأسلحة إلى الداخل، وتكليف بعض العناصر بتصعيد حدة التوتر بين الشارع وقوات الأمن.

ومن هنا، وجهت إيران، عبر الحرس الثوري وقوات الجيش، ضربات عسكرية إلى مواقع تلك المعارضة داخل العراق في المرحلة الماضية، على غرار القصف الصاروخي الذي شنه الحرس الثوري داخل العراق في 20 نوفمبر 2022، بالتزامن مع تصاعد حدة الاحتجاجات الداخلية في إيران اعتراضاً على مقتل الفتاة الكردية العشرينية مهسا أميني بعد توقيفها من قبل عناصر “شرطة الأخلاق” لاتهامها بعدم الالتزام بقواعد ارتداء الحجاب.

كما وجّهت إيران تهديدات مباشرة بإمكانية تكرار هذه الهجمات في حالة ما إذا لم تقدم السلطات العراقية على إبعاد تلك الجماعات عن مناطق الحدود المشتركة، ووقعت مع العراق اتفاقاً أمنياً في 19 مارس الماضي، للتعاون في هذا الملف تحديداً، بل وحددت، في 23 سبتمبر الماضي، مهلة للسلطات العراقية قبل أن تتدخل عسكرياً تحت عنوان “حماية الأمن القومي الإيراني”.

وكان لافتاً في هذا السياق أن باقري نفسه الذي يقوم بزيارة العراق حالياً هو من أدلى بالتصريح الذي حدد فيه هذه المهلة، حيث قال في هذا التاريخ: “يجب نزع سلاح القوات الانفصالية الإرهابية المسلحة بالكامل، وطردها من عموم العراق”، مضيفاً: “لقد كان من المقرر نزع أسلحة هذه الجماعات حتى يوم 19 سبتمبر لكن ما حدث عملياً خلال 6 أشهر من المهلة، ابتعاد تلك الجماعات قليلاً من الحدود، وطلب منا الرئيس إبراهيم رئيسي الصبر ومنح مهلة بضعة أيام، ونحن سننتظر”.

4- الاستعداد لمرحلة جديدة من التصعيد مع واشنطن وتل أبيب: ربما ترى إيران أن الفترة المقبلة قد تشهد مزيداً من التصعيد مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. إذ ما زال الاتفاق النووي يواجه موقفاً حرجاً بسبب استمرار تصاعد الأنشطة النووية الإيرانية بشكل باتت معه إيران تملك كمية من المواد الانشطارية التي يمكن أن تساعدها في إنتاج ثلاث قنابل نووية في حالة ما إذا اتخذت قراراً سياسياً في هذا الصدد وامتلكت التكنولوجيا اللازمة الأخرى للوصول إلى هذه المرحلة.

كما أن إسرائيل ما زالت حريصة، رغم انشغالها بإدارة الحرب في قطاع غزة، على محاولة عرقلة الطموحات النووية والإقليمية الإيرانية، على نحو يبدو جلياً في الهجمات المستمرة التي تشنها ضد الوجود الإيراني في سوريا تحديداً، وآخرها الهجوم الذي وقع في محيط العاصمة السورية دمشق في 2 ديسمبر الجاري، والذي أسفر عن مقتل عنصرين من الحرس الثوري.

من هنا، فإن إيران تريد توجيه تهديدات مباشرة إلى تل أبيب وواشنطن بأن توسيع نطاق التصعيد الحالي قد يكون خياراً قائماً لديها في حالة ما إذا استمرت الهجمات التي تتعرض لها مواقعها في سوريا والعراق، وفي حالة ما إذا اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية إجراءات عقابية أخرى ضدها، على غرار تعطيل حصولها على المليارات الستة التي تمثل مستحقاتها لدى كوريا الجنوبية نظير صادرات النفط، والتي تم تحويلها لحسابات في قطر بمقتضى صفقة تبادل السجناء التي أُبرمت بين واشنطن وطهران ونُفذ الجزء الأول فيها بتبادل إطلاق سراح السجناء في 18 سبتمبر الماضي.

ضربات متبادَلة

كان لافتاً أنه بالتوازي مع زيارة باقري إلى العراق شهد كل من العراق وسوريا ضربات متبادلة بين المليشيات الموالية لإيران من ناحية وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية من ناحية أخرى. فبالتوازي مع الهجوم الذي شنّته إسرائيل وأسفر عن مقتل عنصرين من الحرس الثوري، استهدفت مسيرة مركزاً للمليشيات الإيرانية في منطقة البوكمال السورية في بداية ديسمبر الجاري.

ويعني ذلك أن كلاً من طهران وواشنطن وتل أبيب تسعى عبر تلك التحركات المتقاطعة إلى توجيه رسائل متبادلة، استعداداً للمسارات المحتملة التي قد تتجه إليها الحرب الإسرائيلية التي ما زالت تتصاعد في قطاع غزة والانعكاسات المتوقعة التي قد تنتج عنها في النهاية.