تجاوز الفتور:
دلالات زيارة المبعوث الفرنسي لليبيا

تجاوز الفتور:

دلالات زيارة المبعوث الفرنسي لليبيا



شهدت الآونة الأخيرة كثافة في التحركات الفرنسية تجاه ليبيا، حيث قام المبعوث الخاص للرئيس الفرنسي بول سولير، في 29 أكتوبر الماضي، بجولة في شرق وغرب ليبيا التقى خلالها مختلف الأطراف السياسية والعسكرية الفاعلة في البلاد، وأجرى مباحثات مع المسؤولين حول عدد من الملفات، وعلى رأسها ملف الانتخابات، وتعزيز التنسيق الثنائي في ملف الهجرة غير النظامية، بالإضافة إلى ملف الطاقة، وهي التحركات التي تدخل في إطار الاستراتيجية الفرنسية التي تحاول الحفاظ على ما تبقى من حضورها في شمال أفريقيا.

مظاهر التحرك

1- دعم مظاهر العملية الانتخابية: حرصت فرنسا على إظهار دعمها للاستقرار السياسي في ليبيا، وظهر ذلك في تأكيد مبعوث الرئيس الفرنسي على أهمية إجراء الانتخابات. وتجدر الإشارة إلى أن باريس تحاول تقريب المسافات بين الفرقاء حول قانوني الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، كما تتبنى خطاباً سياسياً يؤكد على ضرورة التوجه نحو الانتخابات الرئاسية والتشريعية في أسرع وقت ممكن، وهو ما عبّر عنه سولير في لقائه بمحمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي، ضمن اجتماعات كثيرة بأطراف الأزمة.

2- تبني نهج متوازن مع كافة الأطراف المحلية: تعترف باريس بأهمية أدوار الجماعات المحلية في شرق ليبيا وغربها، على عكس بعض القوى الخارجية المنخرطة في الأزمة الليبية، وخصوصاً روسيا التي تصر على دعم أحد طرفي الصراع على حساب الآخر. وتحاول باريس الاحتفاظ بعلاقات ودية مع كافة الأطراف المحلية الليبية تقوم على الاستفادة المتبادلة، خاصةً أن هذه الرغبة موجودة أيضاً لدى القوى السياسية الليبية.

3- دعم تطوير العلاقات العسكرية: دفعت باريس خلال الشهور الماضية باتجاه دعم وتطوير العلاقات العسكرية مع ليبيا، وتجلى ذلك في رعاية الحكومة الفرنسية اجتماعات اللجنة العسكرية المشتركة 5+5، بالإضافة إلى مساعي باريس لأن يكون لها موطئ قدم من خلال قاعدة عسكرية متقدمة في الجنوب. وقطعت فرنسا شوطاً معتبراً على هذا الصعيد، وهو ما بدا في تجاوب الأطراف الليبية مع المقترح الفرنسي، حيث يبدى حفتر دعماً للخطوة الفرنسية، إذ تربطه علاقات جيدة مع باريس، وكذلك لا تعارض سلطات طرابلس، خاصة أنها تبحث عن دعم باريس لتمديد سلطتها في المشهد الليبي خلال المرحلة المقبلة.

بالتوازي، تمثل العلاقات العسكرية مع ليبيا أولوية لباريس في التوقيت الحالي، بعد طردها من دول غرب أفريقيا، إذ تبقى ليبيا محطة استراتيجية لنقل القوات الفرنسية من النيجر وتشاد وبوركينافاسو. وهنا، يمكن فهم التقارير التي كشفت في سبتمبر 2022 عن وصول مجموعة من العسكريين الفرنسيين إلى قاعدة “الويغ” العسكرية بالجنوب الليبي قرب الحدود مع تشاد.

4- تقديم المساعدات الإنسانية: نجحت باريس في توظيف آلية المساعدات الإنسانية لتعزيز وجودها في ليبيا، حيث كانت من أوائل الدول التي قدمت العديد من المساعدات عشية العاصفة المدمرة “دانيال” التي اجتاحت ليبيا في سبتمبر 2023، وأسفرت عن كارثة إنسانية غير مسبوقة في عدد من المدن شرق ليبيا، أبرزها مدن بنغازي والبيضاء والمرج، بالإضافة إلى سوسة ودرنة، وتسببت بانهيار سدّين في درنة.

وقد أبدى المبعوث الفرنسي دعم بلاده لعملية إعادة إعمار المدن المنكوبة، وأشار إلى دعم باريس للجنة المالية العليا التي تأسست في ليبيا بعد إعصار دانيال، وضمت كافة الأطياف الليبية، واعتبرتها باريس نموذجاً لتأسيس منصة وطنية شاملة لإعادة إعمار مدينة درنة وبقية المناطق المتضررة.

دوافع باريس

ثمة العديد من الدوافع التي تقف وراء التحرك الفرنسي النشط تجاه ليبيا:

أولها: مواجهة النفوذ الروسي المتنامي في الداخل الليبي، فقد تمكنت موسكو من خلال مجموعة “فاغنر” من تحقيق اختراقات واسعة في الداخل الليبي، خاصة في شرق وجنوب البلاد، حيث تنتشر فاغنر في مواقع استراتيجية من بينها قواعد عسكرية وحقول نفطية، وهو ما يشكل تهديداً لنفوذ باريس التاريخي على إقليم فزان. ولذلك، تُشير العديد من التقديرات إلى أن جولة مبعوث الرئيس الفرنسي لليبيا تأتي بهدف تعزيز وتجديد أواصر التعاون الوثيق مع الأقطاب المؤثرة في الداخل الليبي لتحييد الدور الروسي. وشكلت زيارة المبعوث الفرنسي دفعة للعلاقات الثنائية بين الطرفين، ولا سيما في ظل الموقف الفرنسي المتوازن في التوقيت الحالي تجاه الأطراف المحلية في ليبيا. وبحسب العديد من المراقبين وتقديرات محلية ليبية، فإن زيارة مبعوث الرئيس الفرنسي تُمثّل محاولة لتسجيل نقاط إيجابية على الساحة الليبية في الوقت الذي تنشغل فيه موسكو بالحرب في أوكرانيا، وتعزز واشنطن جهودها لدعم الحرب الإسرائيلية في غزة.

وثانيها: أن التحرك الفرنسي لا ينفصل عن رغبة الحكومة الفرنسية في تعويض نفوذها المتآكل في غرب أفريقيا، بعد خسارة معاقلها التاريخية في النيجر والجابون وقبلهما في مالي وتشاد وبوركينافاسو وغينيا. ومن ثم فإن زيارة المبعوث الفرنسي لليبيا التي تمثل إحدى الدول المحورية في أفريقيا، ربما توفر درجة ما من الثقة للحكومة الفرنسية الحالية، بأنها لا تزال تحظى بحضور داخل القارة السمراء.

وثالثها: أن زيارة المبعوث الفرنسي تأتي في سياق جهود باريس لتأمين احتياجاتها من الطاقة، وهو الأمر الذي تزايدت أهميته في ظل استمرار الحرب الأوكرانية، وتفاقم الأوضاع في الشرق الأوسط بعد الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، وهو الأمر الذي قد يزيد من المخاطر التي يواجهها قطاع الطاقة عالمياً، وهو ما سينعكس على قطاع الطاقة في باريس نتيجة الاضطراب المتوقع في سلاسل توريد النفط القادم من الشرق الأوسط بسبب المخاوف من تصاعد التهديدات والتهديدات المضادة بين إسرائيل وحلفائها، والقوى والتيارات المعادية لها في منطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى وقف موسكو إمدادات الغاز لدول أوروبا. وفي هذا الإطار، تعمل باريس على تأمين حصة من إمدادات الغاز من ليبيا التي تمتلك احتياطات هائلة من مصادر الطاقة، ويمكن أن توفر جانباً واسعاً من احتياجات باريس، خاصة في فصل الشتاء الحالي.

ورابعها: لا تنفصل التحركات الفرنسية في ليبيا عن محاولات باريس إثبات نفوذها في القارة الأفريقية، وإرسال رسالة إلى القوى الأخرى، مفادها أن باريس رغم خسارة بعض مواقعها في أفريقيا إلا أنها لا تزال طرفاً مهماً وقادراً على التأثير على تفاعلات القارة، وملفاتها المهمة.

وخامسها: يرتبط بقضية الهجرة غير النظامية التي تمثل أحد الدوافع المهمة وراء التحرك الفرنسي تجاه ليبيا في التوقيت الحالي، خاصة أنها باتت تشكل قضية محورية للرئيس الفرنسي المقبل على انتخابات رئاسية خلال المرحلة المقبلة، وتأتي على رأس أولوياته، وخصوصاً أنها تتزامن مع تراجع أوضاع الاقتصاد الفرنسي من جهة، ومن جهة أخرى استحواذها على اهتمام اليمين الفرنسي المتشدد الذي يعمل على توظيف ورقة اللاجئين للخصم من الرصيد السياسي لماكرون وتياره في الشارع الفرنسي. في هذا الإطار، يمكن فهم تناول مبعوث الرئيس الفرنسي خلال زيارته لليبيا ملف الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط مع كافة الأطراف الفاعلة في شرق وغرب ليبيا.

تحديات ضاغطة

ختاماً، يمكن القول إن زيارة المبعوث الفرنسي لليبيا يمكن أن تشكل نقلة نوعية في معالجة الفتور الفرنسي، وتعزيز الدور خلال المرحلة المقبلة في الداخل الليبي. بيد أن الدور الفرنسي يواجه تحديات عدة، في الصدارة منها توغل الحضور الروسي في شرق ليبيا، بالإضافة إلى هيمنة تركيا على مفاصل غرب البلاد. كما أن الصورة الذهنية لباريس تُعاني ضعفاً في الأوساط الليبية في التوقيت الحالي بسبب إعلان ماكرون دعمه المطلق للحرب الإسرائيلية على غزة.