لا توفر إيران فرصة إلا وتوجه من خلالها رسائل عديدة إلى حلفائها وخصومها في آنٍ واحد. ويبدو آخر مؤشرات ذلك جلياً في الإعلان عن إطلاق القمر الصناعي الجديد الذي أطلق عليه “ثريا” عبر حامل الأقمار “قائم 100″، في 20 يناير الجاري، حيث تمّ وضع هذا القمر الصناعي في مدار يبعد 750 كم عن سطح الأرض.
ومن دون شك، فإن ذلك لا يعبر عن توجه جديد تتبناه إيران التي سبق أن قامت بالخطوة نفسها خلال الفترة الماضية، والتي نجح بعضها فيما فشل البعض الآخر. وبالتالي، فإن أهمية هذا الحدث تعود إلى توقيته في المقام الأول، الذي يتوافق مع تطوّرات لا تبدو هينة جرت على الساحتين الداخلية والخارجية.
دوافع عديدة
يمكن تفسير أسباب إقدام إيران على اتخاذ هذه الخطوة في هذا التوقيت في ضوء اعتبارات عديدة يتمثّل أبرزها في:
1- مواصلة سياسة “استعراض القدرات”: لا تنحصر هذه القدرات في مجرد إطلاق القمر الصناعي الجديد، وإنما تمتد إلى حامل هذا القمر، أي الصاروخ “قائم 100”. إذ يبدو أن إيران ما زالت تسعى إلى تأكيد أن لديها من القدرات ما يمكن أن يساعدها في رفع كلفة أي تصعيد عسكري قد تتعرض له خلال المرحلة القادمة، وهو احتمال لم تعد تستبعده في ظل التطورات المتلاحقة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط خلال المرحلة الحالية، بعد الارتدادات الإقليمية السريعة والمباشرة التي فرضتها عملية “طوفان الأقصى” -التي نفذتها “كتائب القسام”- وما تلاها من شن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي توازت بدورها مع تصعيد على جبهات مختلفة بداية من العراق مروراً بسوريا ولبنان وانتهاء باليمن.
وقد كان لافتاً في هذا السياق أن إيران أشارت إلى أن أحد أهداف إطلاق القمر الصناعي الجديد ينصرف إلى إجراء اختبار على الصاروخ “قائم 100″، وهو ما أكده رئيس منظمة الفضاء الإيرانية حسن سالاريه، بقوله إن “القمر الصناعي الإيراني الصنع وضع في مدار الأرض، وهو قمر صناعي مخصص لإجراء الأبحاث، لكن مهمته الأهم هي اختبار أداء الصاروخ الذي حمله وهو صاروخ قائم 100”. وقد أشار سالاريه في هذا الصدد إلى أن التخطيط جارٍ لإنتاج الصاروخين “قائم 105″ و”قائم 120” خلال الفترة القادمة.
2- الرد على الهجمات الإسرائيلية: كان لافتاً أن المسئولين الإيرانيين يؤكدون دوماً أن العمليات العسكرية والأمنية التي تنفذها إسرائيل لن تمر دون رد. وهنا، فإن هذا الرد لا ينحصر فقط في استهداف مصالح إسرائيلية سواء في المنطقة أو في مناطق أخرى من العالم، وإنما يمتد إلى اتخاذ خطوات على صعيد تطوير البرنامجين النووي والصاروخي.
وانطلاقاً من ذلك، يمكن القول إن إيران سعت عبر إطلاق القمر الصناعي الجديد “ثريا” إلى الرد على الهجمات الأخيرة التي شنتها إسرائيل، وأسفرت عن مقتل بعض قيادات الحرس الثوري، على غرار القيادي المسئول عن نقل الدعم الإيراني للمليشيات الموالية رضى موسوي الذي قتل في العاصمة السورية دمشق في 25 ديسمبر الفائت. وربما من هنا يتوقع أن تقدم إيران على تبني خطوات مماثلة في إطار ردها على مثل تلك الضربات، والتي كان آخرها الضربة التي استهدفت اجتماعاً لقيادات في الحرس الثوري في دمشق، والتي تم تنفيذها في اليوم نفسه الذي أعلن فيه عن إطلاق القمر الصناعي، وأسفرت عن مقتل قائد استخبارات الحرس الثوري حجة الله أميدوار ونائبه علي آغازده وثلاثة عناصر أخرى.
والجدير بالإشارة في هذا الصدد هو أن إيران لا تفصل بين تلك الهجمات وبين العمليات الإرهابية التي تعرضت لها في الداخل، على غرار العملية التي وقعت خلال الاحتفال بحلول الذكرى الرابعة لاغتيال القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني في كرمان في 3 يناير الجاري، والتي أعلن تنظيم “داعش” مسئوليته عنها، حيث تتبنى إيران في النهاية مقاربة تعتمد على أن الخصم الذي يواجهها واحد ويسعى عبر تلك العمليات والهجمات إلى تقويض الاستقرار الأمني ونشر الفوضى داخل أراضيها.
3- تقييم ردود فعل الدول الغربية: تسعى إيران عبر مثل هذه الخطوات التي تتخذها إلى تقييم المستوى الذي سوف تصل إليه ردود فعل الدول الغربية إزاء ذلك، وهو متغير تضعه طهران في حساباتها في إدارة تفاعلاتها مع تلك الدول. وربما يمكن القول هنا إن إيران سعت إلى توظيف انشغال تلك الدول في حربي أوكرانيا وغزة من أجل الإقدام على تلك الخطوة، وقياس مدى إمكانية اتجاه تلك الدول إلى اتخاذ خطوات مضادة تجاهها.
واللافت في هذا السياق، هو أنه لم تكن هناك ردود فعل واضحة من جانب تلك الدول إزاء عملية إطلاق القمر الصناعي الجديد، على عكس ما كان يجري خلال الإعلان عن خطوات مشابهة في مرحلة ما قبل الحرب في غزة.
وهنا، فإن ذلك قد يعود، في قسم منه، إلى انشغال تلك الدول بالفعل بمتابعة التطورات المتلاحقة التي تجري على ساحتي أوكرانيا وغزة، كما تقول المقاربة الإيرانية. لكن ثمة تفسيراً آخر لا يمكن استبعاده ويتعلق بمحاولة تلك الدول، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، عدم توسيع نطاق التوتر والتصعيد مع إيران حالياً، خاصة في ظل انهماك الأولى في إدارة المواجهات مع بعض حلفاء الأخيرة، لا سيما في اليمن، حيث تواصل توجيه ضربات عسكرية ضد مواقع مليشيا الحوثيين، وكان آخرها في 23 يناير الجاري، وهي الضربة الأقوى منذ بدء العمليات في 12 يناير الجاري.
4- تعزيز خطاب النظام في الداخل: وهو هدف يكتسب أهمية خاصة من جانب القيادة العليا ممثلة في المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، أولاً لتوجيه الانتباه بعيداً عن الإخفاقات الواضحة التي مُنيت بها أجهزة الأمن والاستخبارات الإيرانية في التعامل مع الهجمات والعمليات التي وقعت داخل وخارج إيران، وثانياً لتعزيز فرص رفع مستوى المشاركة الشعبية في انتخابات مجلسي الشورى الإسلامي والخبراء التي سوف تجري بالتزامن في أول مارس القادم، والتي يعول عليها النظام في توجيه رسائل إلى الدول الغربية بأنه ما زال يمتلك قاعدة شعبية قوية في الداخل، ولا سيما بعد الأزمة السياسية التي واجهتها إيران واكتسبت اهتماماً خاصاً من جانب الدول الغربية، بسبب الاحتجاجات التي اندلعت في منتصف سبتمبر 2022 واستمرت حتى بداية يناير 2023 اعتراضاً على وفاة الفتاة الكردية العشرينية مهسا أميني على أيدي عناصر شرطة الأخلاق.
ختاماً، يمكن القول إن إيران سوف تواصل السياسة نفسها خلال المرحلة القادمة، لا سيما أنها تتوقع تعرضها لمزيد من الضغوط من جانب الدول الغربية ومزيد من الهجمات من قبل إسرائيل التي تتجه حالياً إلى رفع مستوى التصعيد معها، في إطار سعيها لرفع كلفة عملية “طوفان الأقصى” التي تتهم إيران بالضلوع فيها رغم نفي الأخيرة لذلك.