تحجيم مستمر:
دلالات تكثيف عمليات ملاحقة “داعش” شمال شرقي سوريا

تحجيم مستمر:

دلالات تكثيف عمليات ملاحقة “داعش” شمال شرقي سوريا



شهدت منطقة شمال شرقي سوريا، التي تخضع لسيطرة ما يُعرف بـ”الإدارة الذاتية” الكردية، نشاطاً مكثفاً لملاحقة عناصر وخلايا تنظيم “داعش”، من قبل كيانات أمنية وعسكرية تعمل تحت مظلة “الإدارة”، في إطار عمليات مكافحة الإرهاب، بالتعاون والتنسيق مع التحالف الدولي لمواجهة تنظيم “داعش”، بقيادة الولايات المتحدة.

وخلال الأسبوع الثالث من شهر يوليو الجاري، نفذت ما تُعرف بـ”الأسايش” التابعة لـ”الإدارة الذاتية”، ومليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، ثلاث عمليات لاعتقال عدد من عناصر التنظيم في نطاق سيطرتها بشمال شرقي سوريا. ورغم هزيمة تنظيم “داعش” عام 2019 في سوريا؛ إلا أنّ فرع التنظيم لا يزال قادراً على تنفيذ عمليات إرهابية، بعضها في مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية”.

أبعاد رئيسية

بقدر ما أن العمليات الثلاث المشار إليها ليست الأولى من نوعها التي تنفذها كيانات أمنية وعسكرية تعمل تحت مظلة “الإدارة الذاتية”، فإن العمليات الأخيرة تنطوي على عدد من الأبعاد الرئيسية، التي يمكن تناولها على النحو التالي:

1- تعدد النطاقات الجغرافية للعمليات: يتضح من خلال التفاصيل المعلنة عن العمليات الثلاث، أنهاجاءت في نطاقات جغرافية متعددة، وليس حملة أمنية كبيرة في منطقة واحدة، وإن كان جميعها في مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية”.

ونفذت “الأسايش” عملية في ريف دير الزور، والثانية والثالثة نفذتهما “قسد” في بلدة الدشيشة بمنطقة الشدادة جنوب الحسكة، ومنبج شرقي محافظة حلب، بما يشير إلى التحرك على مختلف المناطق في نطاق سيطرة “الإدارة الذاتية”، دون الاقتصار على منطقة واحدة.

2- تحركات مكثفة في توقيت متقارب: اللافت في العمليات الثلاث أنها جاءت متقاربة زمنياً بصورة ملحوظة، بما يشير إلى تحركات مكثفة لمختلف الكيانات التي تعمل تحت مظلة “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا خلال الفترة الأخيرة، لمواجهة تنظيم “داعش”.

وبغضّ النظر عن التحركات المكثفة، فإنه من غير الواضح حدود التنسيق بين “الأسايش” و”قسد” حول العمليات الثلاث، وما إذا كانت العمليات قد جاءت في سياق توجهات عامة بتكثيف التحرك ضد “داعش”، من دون تفاهمات وتنسيق بين الطرفين.

3- عمليات منفردة بإسناد التحالف الدولي: بالنظر إلى المعلومات حول العمليات الثلاث، فإنها جاءت بشكل منفرد، وليست مشتركة مع التحالف الدولي لمواجهة “داعش”، على الرغم من تنفيذ عمليات مشتركة بين الطرفين خلال السنوات القليلة الماضية، منذ عام 2019.

ومع ذلك، فإن العمليات جاءت بالتنسيق وإسناد من طيران التحالف الدولي، خاصة وأن الكيانات الأمنية والعسكرية بشمال شرقي سوريا لا تمتلك قدرات عسكرية كبيرة، لدعم جوي للعمليات الميدانية، بما يكسب دور التحالف الدولي أهمية كبيرة، خاصة وأن طيران التحالف دائماً ما يوجه دعماً للكيانات الأمنية في شمال شرقي سوريا، فيما يتعلق بمواجهة تنظيم “داعش”، مثل تأمين السجون والمخيمات، والسيطرة على حالات تمرد سابقة في بعض أماكن احتجاز عناصر التنظيم.

4- هجمات ذات طابع أمني استخباراتي: يمكن تصنيف العمليات الثلاث في إطار العمليات ذات الطابع الأمني، وفقاً لمعلومات استخباراتية، إذ إنها ليست عمليات عسكرية ممتدة لفترة زمنية لمداهمة ملاذات لمجموعات تنظيم “داعش”، أو الهجوم على مناطق وعرة والقضاء على العناصر المختبئة بها.

ويتضح أن العمليات الثلاث جاءت عقب الحصول على معلومات والتدقيق فيها، من خلال عمليات رصد ومتابعة مسبقة، بما يعكس أن العمليات جاءت بعد تخطيط مسبق للتعامل مع الأهداف، سواء في عملية استهداف أمير “داعشي” أو القبض على الأشخاص المشتبه في تورطهم مع التنظيم.

تطور عملياتي

في ضوء الأبعاد الرئيسية للعمليات الثلاث ضد تنظيم “داعش”، يمكن الإشارة إلى بعض الدلالات التي يتصل بعضها باستراتيجية التحالف الدولي لمواجهة “داعش” في شمال شرقي سوريا، ويتمثل أبرزها في:

1- ضربات استباقية لمواجهة هجوم لـ”داعش: تفرض العمليات الثلاث لملاحقة قيادات وعناصر “داعش”، علامات استفهام حول كثافتها، وذلك رغم تنفيذ عمليات سابقة ذات طابع أمني، وربما ارتبطت تلك التحركات المكثفة، بغض النظر عن وجود تنسيق بين “الأسايش” و”قسد” أم لا، بضربات استباقية، لاستهداف قيادات بارزة وفاعلة في مجموعات “داعش” التي تنشط في شمال شرقي سوريا.

وهنا، فإن العمليات الثلاث تأتي في سياق الاستجابة لمعلومات استخباراتية حصلت عليها تلك الكيانات الأمنية والعسكرية التابعة لـ”الإدارة الذاتية”، والتحرك لإحباط مخططات التنظيم في تنفيذ سلسلة عمليات إرهابية خلال الفترة المقبلة، بما يستدعي مواجهة تلك المخططات بشكل مكثف، وعلى أكثر من اتجاه، لعرقلة تحركات التنظيم.

وبمعنى آخر، فإن تلك الكيانات ربما تكون قد توقعت أن يسعى التنظيم إلى رفع معدل عملياته مجدداً في الفترة القادمة، بعد أن تراجع في الشهور الأخيرة، حيث بدا لافتاً أن هذا المعدل تفاوت بشكل كبير، منذ مطلع العام الجاري، وهو السمة المميزة لنشاط التنظيم خلال عام 2022، وهذا ما يبدو جلياً من خلال العمليات التي أعلن التنظيم تبنيها عبر صحيفة “النبأ” الأسبوعية التابعة له، كما يوضح المخطط التالي:

2- استمرار الضغوط لتفكيك خلايا التنظيم: بشكلٍ عام، فإن العمليات الثلاث تأتي في سياق عمليات مكافحة الإرهاب، التي تنفذها بشكل دوري الكيانات الأمنية التابعة لـ”الإدارة الذاتية”، ولكنها تتخطى العمليات التقليدية المتعلقة بالدوريات الأمنية في أجزاء متفرقة بشمال شرقي سوريا، سواء تلك المنفردة أو التي تنفذها بمشاركة قوات التحالف الدولي.

وتشير العمليات الأخيرة إلى استمرار العمل على تفكيك خلايا “داعش” التي تستقر في شمال شرقي سوريا، وهو نهج متصاعد منذ عام 2022، بقيادة التحالف الدولي، بالتركيز على تنفيذ عمليات نوعية تهدف لتفكيك الخلايا، وإضعاف مجموعات التنظيم باستهداف وملاحقة القيادات والعناصر البارزة.

3- عزل عناصر التنظيم بشمال شرق سوريا: من شأن العمليات الأخيرة أن تكتسب أهمية لعزل عناصر التنظيم التي تنشط في شمال شرقي سوريا، عن مجموعاته خارج نطاق سيطرة “الإدارة الذاتية”، إذ ينشط تنظيم “داعش” في سوريا، عبر عدد من المجموعات ذات الأعداد الصغيرة، للتكيف مع المتغيرات الميدانية، التي فرضتها هزيمة التنظيم عام 2019، وفقدان السيطرة على المدن والبلدات.

إذ إن العناصر التي تنشط في شمال شرقي سوريا يتخطى دورها تنفيذ العمليات الإرهابية، إلى عمليات الدعم اللوجيستي، إضافة إلى توفير مصادر تمويلية، وتسهيل نقل الأموال، فضلاً عن جمع المعلومات ورصد تحركات الكيانات الأمنية والعسكرية والتحالف الدولي، تمهيداً لتنفيذ عمليات إرهابية، بناءً على تلك المعلومات.

4- فاعلية جمع المعلومات حول هياكل “داعش”: منذ محاولة تنظيم “داعش” اقتحام سجن غويران الذي يضم عناصر التنظيم، لجأ التحالف الدولي، إضافة للكيانات الأمنية والعسكرية في شمال شرقي سوريا، إلى تبني استراتيجية تفكيك الخلايا، وهو ما يستدعي عمليات نوعية اعتماداً على جمع المعلومات وتدقيقها، على نحو ما حدث في العمليات الأخيرة.

وبدا أن ثمة رغبة من قبل التحالف الدولي بمشاركة “قسد” في اعتقال عدد من القيادات والعناصر البارزة، من خلال عمليات إنزال جوي، أو عمليات ميدانية بدعم جوي من التحالف، دون توجيه ضربات جوية لقتلهم، بغرض استجوابهم والحصول على معلومات تفصيلية حول هياكل التنظيم، وقدراتهم وأعداد عناصره، وتحركاتهم.

وتُظهر العمليات الأخيرة فاعلية المعلومات التي تجمعها “الأسايش” أو “قسد”، إضافة إلى دعم التحالف الدولي، والاستفادة من القدرات الكبيرة لدول التحالف.

5- تطور القدرات العملياتية لـ”الأسايش”: بخلاف العمليتين اللتين نفذتهما “قسد”، فإن العملية الثالثة كانت لـ”الأسايش”، والتي تعكس تطوراً في القدرات العملياتية لملاحقة عناصر تنظيم “داعش”، في ظل استمرار اقتحام مواقع تتحصن فيها بعض عناصر وقيادات التنظيم، وكان آخرها اعتقال أحد قيادات “داعش”، في ريف دير الزور، في 9 يوليو الجاري.

وتأتي العمليات التي تنفذها وحدات خاصة في “الأسايش”، في ظل تكرار استهدافهم من قبل تنظيم “داعش”، بما يشير إلى رفع كفاءة وتطوير قدرات تلك الوحدات بصورة تمكّنها من مواجهة هجمات التنظيم، وتنفيذ عمليات نوعية، تتصل بعمليات مكافحة الإرهاب.

تهديد قائم

رغم عدم قدرة فرع تنظيم “داعش” في سوريا على مواصلة عملياته على نفس المعدلات بشكل شهري، إذ يتضح تذبذب منحنى النشاط العملياتي؛ إلا أن التنظيم لا يزال يمثل تهديداً قد يتصاعد حال تراجع وتيرة عمليات تفكيك الخلايا وملاحقة القيادات والعناصر البارزة، بما يعطي فرصة للتنظيم لإعادة بناء القدرات، وبالتالي فإن الكيانات الأمنية والعسكرية التابعة لـ”الإدارة الذاتية” تدفع إلى تحجيم النشاط العملياتي للتنظيم في مناطق سيطرتها، عبر عدد من المستويات، سواء عمليات نوعية، أو تسيير الدوريات الأمنية، بالتعاون مع التحالف الدولي لمواجهة “داعش” بقيادة الولايات المتحدة.