استضافت العاصمة الجزائرية اجتماعات أمنية بين الجزائر وتونس في 29 و30 يناير الجاري، كان عنوانها الرئيسي هو مكافحة الهجرة غير الشرعية، والتصدي لجرائم التهريب، وذلك بحضور وزيري داخلية الدولتين، وهي الاجتماعات التي تزامنت مع انعقاد الدورة الأولى لـ”اللجنة الثنائية لترقية وتنمية المناطق الحدودية الجزائرية-التونسية”، التي تم إطلاقها في أكتوبر الماضي.
وقد توافقت الدولتان خلال هذه الاجتماعات على مسارٍ يتضمن الارتقاء بوتيرة التعاون الثنائي، ومعالجة المخاطر التي تعيق تنفيذ المشروعات المرتبطة بتنمية المناطق الحدودية، ومواجهة الجريمة المنظمة، خاصةً التي تتعلق بعمليات تهريب الوقود الجزائري عبر المنافذ الحدودية إلى تونس، بالإضافة إلى تحسين ظروف استقبال المسافرين في المعابر الحدودية المشتركة بينهما.
متغيرات ضاغطة
جاء توقيع تونس والجزائر، خلال هذه الاجتماعات، على مذكرة تتضمن “ورقة الطريق” لتنمية المناطق الحدودية، فضلاً عن توسيع التعاون الأمني المشترك، في ضوء عددٍ من المتغيرات الضاغطة التي يتمثل أبرزها في:
1- تزايد تهديدات التنظيمات الإرهابية: رغم نجاح تونس في محاصرة نشاط التنظيمات الإرهابية خلال المرحلة الماضية، إلا أن ثمة مؤشرات عديدة بدأت توحي بأن هذه التنظيمات تسعى لتنفيذ مزيد من العمليات، وتجلى ذلك في عودة الحديث عن مخاطر الخلايا الإرهابية في تونس في نهاية ديسمبر الفائت، عشية قضاء الأجهزة الأمنية على 3 عناصر إرهابية بمرتفعات جبال القصرين، وسط غرب تونس، ينتمون- بحسب مراقبين وتقديرات محلية- إلى “كتيبة عقبة بن نافع” التابعة لـ”تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، و”تنظيم أجناد الخلافة” الموالي لتنظيم “داعش”.
وبالتوازي مع ذلك، فإن الجزائر بدورها لا تزال تواجه تهديدات مماثلة، وآخرها إعلان وزارة الدفاع، في 24 يناير الجاري، عن توقيف 3 أشخاص بشبهة دعم الجماعات الإرهابية. ولم يكن هذا الحادث هو الأول من نوعه، ففي 7 ديسمبر الفائت، تم اعتقال 12 عنصراً ينتمون لتلك الجماعات، خلال عمليات متفرقة شملت عدداً واسعاً من الولايات.
2- تفاقم عمليات التهريب عبر الحدود: تمتد المنطقة الحدودية الجبلية بين الجزائر وتونس لنحو 1000 كم، وتتميز بكثافة سكانية عالية، بيد أنها تمثل تحدياً اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً للدولتين. ورغم أنهما عززتا جهودهما في السنوات الأخيرة لتأمين هذه المناطق، إلا أنها تشهد تنامياً لافتاً للأنشطة غير المشروعة، التي تتضمن بالدرجة الأولى تهريب المخدرات، والتي تعاني منها تونس، على نحو دفع الرئيس قيس سعيّد إلى اتهام من وصفهم بـ”اللوبيات التي تريد تحطيم الدولة والمجتمع بالمخدرات”.
وبحسب تقديرات محلية، فإن تجارة المخدرات شهدت تطوراً لافتاً في تونس، حيث تحولت المنطقة الحدودية بين تونس والجزائر إلى منطقة عبور لتجار ومهربي المخدرات. كما تحولت المناطق الحدودية بين البلدين إلى بؤرة استراتيجية لتهريب السلع من الجزائر إلى تونس، وفي الصدارة منها الوقود، والماشية، وقطع السيارات، والنحاس، والإلكترونيات، والعطور، ومستحضرات التجميل، وغيرها.
3- التعرض لانتقادات داخلية وخارجية: بينما لا تزال تونس تعاني من تصاعد حدة الاستقطاب السياسي، وتفاقم الأزمة الاقتصادية، وهو ما انعكس على تنامي حالة عدم الاستقرار في الداخل؛ فإن الجزائر في المقابل رغم ضخامة الإنفاق على الأولويات الاجتماعية لتفادي الاحتجاجات، لا تزال تواجه ضغوطاً خارجية في عدد من الملفات، وخاصة الحقوقية، فضلاً عن انتقادات داخلية فيما يتعلق بسياستها الخارجية إزاء العديد من الملفات، وهو ما يمثل دافعاً للدولتين نحو تطوير العلاقات الثنائية، باعتبار أن ذلك يمكن أن يساهم في توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامهما للتعامل مع الضغوط والانتقادات التي تتعرضان لها.
4- تصاعد التوترات الأمنية الإقليمية: يتزامن توقيع الاتفاق الأمني بين تونس والجزائر مع استمرار الاضطرابات في المحيط الإقليمي للدولتين، حيث تعاني ليبيا من توتر وانقسام سياسي متواصل رغم كل الجهود التي بذلت للوصول إلى تسوية للصراع الحالي وإنهاء المرحلة الانتقالية.
وبالتوازي مع ذلك، فإن الاضطرابات التي تشهدها مالي والنيجر وبوركينافاسو في الوقت الحالي تفرض بدورها تداعيات سلبية على الأوضاع في منطقة المغرب العربي. فعلى سبيل المثال، عادت الاضطرابات مجدداً في مالي، بعد إعلان المجلس العسكري، في 26 يناير الجاري، إنهاء اتفاق السلام الموقع برعاية جزائرية مع المتمردين الطوارق، وتجدد العنف بين السلطة الحاكمة في باماكو وتنسيقية حركات “أزواد” في الشمال.
دوافع مختلفة
ثمة العديد من الاعتبارات التي تقف وراء التعاون الجزائري-التونسي لضبط الحدود، وتعزيز العلاقات الثنائية، وفي الصدارة منها دعم وتطوير المناطق الحدودية، التي تمثل، وفقاً لاتجاهات عديدة، “رئة تجارية” بين الدولتين، بالنظر إلى وجود العديد من المعابر التي توفر بيئة خصبة لدفع وتطوير الأنشطة الاقتصادية والتبادل التجاري.
فضلاً عن ذلك، فإن الاجتماعات الأمنية الأخيرة تكشف عن حرص الدولتين على وضع استراتيجية مشتركة لمواجهة المخاطر الكبرى، وخاصة عمليات الهجرة غير النظامية، إذ ساهمت حالة السيولة الأمنية في دول غرب أفريقيا، وتفاقم الأوضاع الأمنية والاجتماعية التي تشهدها دول الساحل، والتي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة في الآونة الأخيرة بعد الانقلابات العسكرية التي شهدتها مالي في 2021 وبوركينافاسو في 2022 والنيجر والجابون في 2023؛ في تصاعد عمليات الهجرة غير النظامية من هذه الدول إلى تونس والجزائر باعتبارهما نقطة انطلاق رئيسية للمهاجرين الذين يسعون لعبور البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا. وهنا، يمكن فهم مساعي الجزائر وتونس لوضع هذه الاستراتيجية وتحويلها إلى خطوات إجرائية على الأرض.
ختاماً، يمكن القول إن هذا التوافق الملحوظ بين تونس والجزائر يمكن أن يمثل فرصة لبلورة تعاون إقليمي واسع يستهدف معالجة المخاطر التي تشهدها منطقة المغرب العربي، وتمتد تأثيراتها إلى مناطق جغرافية أوسع، ومنها ظاهرة الهجرة غير الشرعية، بالإضافة إلى عمليات التهريب التي تتم في المناطق الحدودية، والأهم مواجهة ظاهرة الإرهاب التي عادت للواجهة في منطقة المغرب العربي، بفعل تفاقم الاضطرابات الأمنية في ليبيا ودول الساحل.