التقدم "الناعم":
دلالات تحذيرات وكالة الطاقة الذرية من النشاط النووي الإيراني

التقدم "الناعم":

دلالات تحذيرات وكالة الطاقة الذرية من النشاط النووي الإيراني



عادت الوكالة الدولية للطاقة الذرية من جديد إلى توجيه تحذيرات من عواقب التطور الملحوظ في الأنشطة النووية الإيرانية. ورغم أن ذلك لا يعني بالضرورة أن إيران حققت ما يمكن تسميته بـ”القفزات” في برنامجها النووي خلال الفترة الأخيرة، إلا أن توقيت إطلاق هذه التحذيرات الجديدة يكتسب أهمية وزخماً خاصاً.

إذ كشف التقرير الذي أصدرته الوكالة، في 26 ديسمبر الجاري، أن إيران أنهت المرحلة التي أبطأت فيها عملية تخصيب اليورانيوم، وأن هناك تطوراً ملحوظاً في الكمية التي أنتجتها من اليورانيوم المخصب بنسبة مختلفة، مضيفاً أنه منذ إنهاء هذه المرحلة بدأت منشأتا ناتانز وفوردو (اللتان تقومان بتخصيب اليورانيوم بنسبة 60%) في إنتاج كمية تعادل 3 كيلوجرام شهرياً.

رواية مضادة

اللافت في هذا السياق، هو أن إيران سارعت إلى الرد على هذا التقرير، مشيرةً إلى أنه لم يطرأ تغيير على الأنشطة النووية “المعتادة” التي تقوم بها. وهنا، فإن إيران بالتوازي مع ذلك، قدمت تفسيراً آخر لأسباب حرص الوكالة الدولية للطاقة الذرية على إطلاق تحذيرات جديدة من التقدم الملحوظ في أنشطتها النووية، وهو تفسير يكتسب طابعاً سياسياً في المقام الأول، ومفاده أن الهدف من هذه التحذيرات هو صرف الأنظار عن الحرب التي تشنها إسرائيل في قطاع غزة، والدعم البارز من جانب الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل في هذا الصدد.

تعمد إيران إضفاء طابع سياسي على خلافاتها المتعددة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية يعود إلى ادعائها أن الدول الغربية تستغل هذه الخلافات لممارسة ضغوط وفرض عقوبات جديدة عليها، رغم أن السبب الأساسي لهذه الخلافات يكمن -وفقاً لرؤيتها- في انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية في عهد إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018، وعودتها إلى فرض عقوبات على إيران بداية من 7 أغسطس من العام نفسه.

وكان لافتاً في هذا السياق أن إيران ردت على الإجراءات التصعيدية التي اتخذتها بعض الدول الأوروبية، مثل فرنسا وألمانيا، ضدها، وخاصةً فيما يتعلق بفرض عقوبات جديدة عليها، عبر منع بعض المفتشين التابعين للوكالة الدولية للطاقة الذرية، من الجنسيتين الفرنسية والألمانية، من دخول منشآتها النووية.

دوافع عديدة

يمكن تفسير تعمد الوكالة الدولية للطاقة الذرية توجيه تحذيرات جديدة إزاء تطور الأنشطة النووية الإيرانية في هذا التوقيت في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- احتواء تراجع الاهتمام الغربي بالملف النووي: تسعى الوكالة عبر هذه التحذيرات إلى توجيه اهتمام الدول الغربية مجدداً إلى العواقب التي يمكن أن تنتج عن تراجع الاهتمام الملحوظ في الفترة الماضية بالملف النووي الإيراني، في ظل انشغالها بإدارة ملفات أخرى تحظى باهتمام خاص من جانبها، ولا سيما ملفي الحرب الروسية في أوكرانيا والحرب الإسرائيلية في قطاع غزة.

وفي رؤيتها، فإن هذا التراجع الملحوظ في الاهتمام ربما وجه رسالة إلى إيران دفعتها إلى الإمعان في تبني السياسة نفسها الخاصة بتحقيق أكبر قدر من التقدم في الأنشطة النووية خلال الفترة الحالية.

2- استباق تداعيات التصعيد الإيراني-الإسرائيلي: لا يمكن استبعاد أن تكون لدى الوكالة رغبة في استباق التداعيات المحتملة التي قد تنتج عن التصعيد بين إيران وإسرائيل خلال المرحلة القادمة. فرغم أن هذا التصعيد قد تزايد في الفترة الأخيرة على خلفية اندلاع الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، إلا أنه قد لا يقارن، في رؤية اتجاهات عديدة، بما يمكن أن يكون عليه في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الحالية.

ووفقاً لذلك، فإن إسرائيل ربما تسعى إلى إعادة بناء الردع مع القوى والأطراف المناوئة لها في المنطقة، على نحو سوف يؤدي، في الغالب، إلى اتساع نطاق المواجهات بين الطرفين، وهو ما يبدو جلياً في تعمد إسرائيل، في هذا الوقت تحديداً، توجيه ضربة قوية لإيران، عبر استهداف القيادي البارز في الحرس الثوري رضا موسوي، المسئول عن إدارة العلاقات بين إيران وحلفائها في سوريا ولبنان، في العاصمة السورية دمشق، في 25 ديسمبر الجاري، وهي الضربة التي توعدت إيران بالرد عليها في المكان والزمان الذي يتناسب مع حساباتها.

3- تراجع تأثير العقوبات الغربية المستمرة: يبدو أن الوكالة ترى أن السياسة التي تتبناها الدول الغربية في التعامل مع الملف النووي الإيراني لم تنجح في دفع إيران إلى إجراء تغيير في سياستها إزاء هذا الملف. ويعني ذلك أنها ربما تعتبر أن آلية العقوبات التي تستند إليها هذه الدول استنفدت أغراضها، خاصة أن تأثيراتها وصلت إلى ذروتها، فضلاً عن أن إيران تحاول الالتفاف عليها بطرق مختلفة.

وبعبارة أخرى، فإن إدراك إيران أن الدول الغربية لا تمتلك خيارات متعددة في التعامل معها في هذا الملف تحديداً قد يدفعها إلى اتخاذ مزيد من الإجراءات التصعيدية التي يمكن من خلالها أن تصل إلى مرحلة غير مسبوقة من مراكمة المواد النووية، حيث تشير تقديرات الوكالة إلى أن إيران بات لديها من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% ما يكفي لإنتاج 3 قنابل نووية في حالة ما إذا اتخذت قراراً سياسياً في هذا الصدد وواصلت جهودها لإنتاج المفجر النووي وغيره من المتطلبات التكنولوجية اللازمة للوصول إلى هذه المرحلة.

4- تزايد نفوذ التيار المتشدد في طهران: مع اقتراب موعد انتخابات مجلس الشورى الإسلامي الإيراني، التي سوف تجرى في أول مارس 2024، فإن تيار المحافظين الأصوليين ربما يسعى إلى تبني سياسة أكثر تشدداً في الملف النووي تحديداً، خاصة أن ذلك يتوازى مع استمرار الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، وتصاعد عمليات الاستهداف الإسرائيلي لنفوذ إيران في مناطق مختلفة، على غرار ما حدث في سوريا.

وهنا، فإن تزامن المتغيرات الجديدة التي طرأت على الساحتين الداخلية والخارجية، ولا سيما ما يتعلق بالتصعيد الحالي بين إسرائيل وإيران والتجاذبات السياسية الداخلية قبل الانتخابات، قد يفرض تداعيات مباشرة على الملف النووي، ولا سيما فيما يتصل باتجاه طهران إلى تحقيق تقدم أكبر في الأنشطة النووية خلال المرحلة القادمة.

إدارة التصعيد

رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية سارعت إلى توجيه انتقادات مباشرة إلى إيران على خلفية التقرير الجديد الذي أصدرته الوكالة، إلا أن ذلك لا يوحي بأنها سوف تجري تغييراً سريعاً في مقاربتها الحالية لهذا الملف تحديداً، ولا سيما في ضوء انشغالها بالحربين في أوكرانيا وغزة، وباقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في نهاية عام 2024، على نحو يزيد من احتمال استمرار التجاذبات الحالية بين إيران من ناحية، وكل من الوكالة الدولية للطاقة الذرية والدول الغربية من ناحية أخرى.