تحوّل جديد:
دلالات تأسيس آلية استراتيجية لتعزيز التعاون بين أنقرة وواشنطن

تحوّل جديد:

دلالات تأسيس آلية استراتيجية لتعزيز التعاون بين أنقرة وواشنطن



ساهمت العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا التي بدأت في ٢٤ فبراير الماضي، والتي أعلنت تركيا رفضها لها قبل إقدامها على إغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل وفقاً لاتفاقية “مونترو”؛ في إحداث تحول في العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، الحليفين الاستراتيجيين في حلف الناتو، بعد أن شهدت جملة من التوترات خلال السنوات الماضية على خلفية شراء أنقرة منظومة الدفاع الصاروخي الروسية (إس-٤٠٠)، وإخراج واشنطن للأخيرة من برنامج المقاتلة الأمريكية (إف-٣٥)، والدعم الأمريكي لوحدات حماية الشعب الكردية في شمال شرق سوريا، التي تعتبرها تركيا تنظيماً إرهابياً. وقد ترجم ذلك التحول في الإعلان التركي-الأمريكي المشترك عن آلية استراتيجية، في ٤ أبريل الجاري، لتعزيز التعاون في مجالات مثل الاقتصاد والدفاع، وفقاً للتفاهم الذي تم التوصل إليه خلال الاجتماع بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والأمريكي جو بايدن على هامش قمة مجموعة العشرين في روما في ٣١ أكتوبر الماضي، حيث أعربا عن رغبتهما المشتركة في تعزيز العلاقات الثنائية. وتسمح تلك الآلية، وفقاً لوكيلة وزارة الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند، للمسئولين الأتراك والأمريكيين بالتباحث في جميع القضايا الثنائية، من التجارة إلى حقوق الإنسان والمجتمع المدني، أو القضايا الإقليمية من سوريا إلى أوكرانيا.

مؤشرات عديدة

كشفت التحركات الأمريكية والتركية المشتركة عن أن هناك توجهاً مع بداية عهد الرئيس الأمريكي جو بايدن لوقف التصعيد في العلاقات بين الحليفين الاستراتيجيين بعد أن وصل إلى مستويات غير معهودة في تاريخها. وقد كشفت الأزمة الأوكرانية، والمساعي الأمريكية لتشكيل جبهة موحدة من الحلفاء والشركاء لعزل روسيا دولياً، أهمية أنقرة في التعامل مع العمليات العسكرية الروسية ضد الأراضي الأوكرانية. وتتمثل أبرز مؤشرات ذلك فيما يلي:

١- غياب التصعيد واستقرار العلاقات: لم تشهد العلاقات بين واشنطن وأنقرة منذ تولي بايدن السلطة أزمة جديدة، وسط التوترات المحتدمة، والخلافات الاستراتيجية. ويُعد هذا الهدوء الذي تشهده العلاقات الأمريكية-التركية راهناً مقارنة بالإدارات الأمريكية السابقة تحولاً لافتاً. وقد مزجت مقاربة الإدارة الحالية بين انتقادات للسياسات التركية الداخلية والإقليمية، وفي الوقت ذاته التأكيد على أهمية أنقرة بالنسبة لواشنطن، والتركيز على ضرورة حل الخلافات المشتركة، واتخاذ خطوات جدية للتوصل إلى صيغ توافقية حيال القضايا الخلافية بين البلدين.

٢- اتجاه تركيا إلى دعم أوكرانيا: في الوقت الذي ترفض فيه الولايات المتحدة الأمريكية إرسال قوات عسكرية للدفاع عن الأراضي الأوكرانية ضد الهجمات الروسية، فإنها دفعت حلفائها لتقديم الدعم العسكري لكييف لتعزيز قدراتها للدفاع عن نفسها. وعلى الرغم من معارضة أنقرة العقوبات الأمريكية والدولية ضد روسيا، فإنها رفضت العمليات العسكرية التي تشنها الأخيرة ضد أوكرانيا. وبجانب الدعم السياسي لأوكرانيا والتأكيد على وحدة أراضيها منذ المحاولات الروسية لضم شبه جزيرة القرم عام ٢٠١٤، قدمت أنقرة دعماً عسكرياً لها بتزويدها بطائرات من دون طيار.

٣- زيادة وتيرة الاتصالات الأمريكية-التركية: مع تصاعد حدة الأزمة الأوكرانية، زادت وتيرة الاتصالات والمحادثات بين المسئولين الأمريكيين والأتراك، حيث أجرى الرئيس الأمريكي جو بايدن اتصالاً هاتفياً بنظيره التركي رجب طيب أردوغان في ١٠ مارس الفائت، بجانب زيارة نائبة وزير الخارجية الأمريكي ويندي شيرمان لأنقرة لبحث سبل التعامل مع الأزمة الأوكرانية، وتقوية التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ضد روسيا، وكذلك الاتفاق على اتخاذ خطوات ملموسة لتنفيذ آلية الحوار الاستراتيجي بين البلدين، وهو ما دفع فيكتوريا نولاند للتصريح لوسائل الإعلام التركية بعد اجتماع مع مسئولي وزارة الخارجية والرئاسة التركية، في ٤ أبريل الجاري، بأن “هناك طاقة جديدة في العلاقات”.

٤- دعم واشنطن لدور الوساطة التركية: منذ التدخل الروسي الأول في عام ٢٠١٤، كانت تركيا واحدة من الدول المؤيدة صراحة لوحدة أراضي أوكرانيا، وفي الوقت ذاته حافظت على علاقات قوية مع روسيا لأسباب براجماتية وجيوسياسية. وفي ظل تمتعها بعلاقات قوية بطرفي الصراع، استضافت لقاءين بين مسئولين روسيين وأوكرانيين لحل الأزمة المتصاعدة في أعقاب العمليات العسكرية الروسية الأخيرة. وقد وصفت نولاند الدور الذي تلعبه أنقرة في الأزمة الأوكرانية بأنه “محوري”، وأن أنقرة كانت صديقاً قوياً لأوكرانيا، سواء من حيث الدعم الإنساني أو الدعم الأمني. وقال البيان التركي-الأمريكي المشترك بشأن الإعلان عن آلية التفاهم الاستراتيجية إن الولايات المتحدة الأمريكية رحبت بجهود تركيا لتسهيل حل دبلوماسي عادل لإنهاء الحرب الروسية ضد أوكرانيا.

٥- انفتاح أمريكي لشراء أنقرة مقاتلات (إف-١٦): طالب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال اتصال هاتفي مع نظيره الأمريكي جو بايدن، في ١٠ مارس الفائت، برفع جميع العقوبات “غير العادلة” على صناعة الدفاع التركية. وفي مؤشر على تخفيف الإدارة الأمريكية من القيود على أنقرة، فقد أبدت انفتاحاً بعد فترة من الرفض لطلب الأخيرة شراء ٤٠ مقاتلة أمريكية من طراز (إف-١٦) من إنتاج شركة لوكهيد مارتن، بعدما حرمت من المشاركة ببرنامج المقاتلات (إف- ٣٥) لشرائها منظومة الدفاع الصاروخي الروسية (إس-400). وقد أرسلت وزارة الخارجية الأمريكية خطاباً للكونجرس الأمريكي تضمّن أن بيع طائرات (إف-١٦) إلى تركيا يخدم الأمن القومي الأمريكي والمصالح التجارية والاقتصادية المشتركة، وكذلك وحدة حلف الناتو وخططه على المدى الطويل.

وقد جاء خطاب وزارة الخارجية الأمريكية رداً على خطاب أرسله العضو الديمقراطي بالكونجرس فرانك بالوني وأكثر من ٥٠ مشرعاً من الحزبين الجمهوري والديمقراطي لحث الإدارة الأمريكية على رفض صفقة بيع طائرات (إف-١٦) لأنقرة لعدم التزام الرئيس أردوغان تجاه حلف الناتو وانتهاكاته الواسعة لحقوق الإنسان.

٦- تعيين سفير أمريكي جديد: أشارت العديد من التقديرات إلى أن جهود تحسين العلاقات الأمريكية-التركية تكثفت مع تعيين السفير الأمريكي الجديد لدى أنقرة جيف فليك، فهو سيناتور جمهوري سابق معتدل، وعضو سابق في لجان العلاقات الخارجية والطاقة والموارد الطبيعية بمجلس الشيوخ. وتكشف تلك التقديرات عن أنه لدرايته بكيفية صنع القرار الأمريكي سيكون حريصاً على استثمار معرفته وعلاقاته لتحسين وتعميق العلاقات بين الدولتين.

عقبة الكونجرس

على الرغم من تركيز الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، مع تصاعد حدة الأزمة الأوكرانية، على المجالات الإيجابية للتعاون، بدلاً من الخوض في المشاكل المزمنة التي عرقلت العلاقات خلال السنوات الماضية، وجهود تركيا الأخيرة لتحسين العلاقات مع إسرائيل وأرمينيا التي من شأنها التقليل من ضغوط اللوبي الإسرائيلي والأرميني على الكونجرس الأمريكي لتبني مواقف متشددة تجاه أنقرة، فإنه سيظل عقبة أمام المحاولات الأمريكية للتقارب مع تركيا، ولا سيما مع استمرار رفض المشرّعين الأمريكيين بيع أسلحة أمريكية إلى تركيا ما لم يكن هناك تحول جذري في موقفها من شراء منظومة الدفاع الصاروخي الروسية (إس-٤٠٠).

ويرى تيار داخل الكونجرس أن صفقة الأسلحة لتركيا تتعارض مع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية نظراً لتنامي العلاقات بين تركيا وروسيا. فقد سبق أن أرسل ١١ عضواً بمجلس النواب الأمريكي، في ٢٥ أكتوبر الماضي، رسالة إلى الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته أشاروا فيها إلى “شعورهم بالقلق العميق” بشأن شراء تركيا ٢٠ طائرة من طراز (إف-١٦) لكون أنقرة تتصرف كخصم للولايات المتحدة الأمريكية بشرائها منظومة الدفاع الروسية، فضلاً عن صعوبة إنهاء القضايا الخلافية بين الحليفين الاستراتيجيين بين عشية وضحاها؛ لتباعد رؤى البلدين حولها بشكل كبير.