دلالات انقلاب النيجر في الوطن العربي – الحائط العربي
دلالات انقلاب النيجر في الوطن العربي

دلالات انقلاب النيجر في الوطن العربي



هل ثمة دلالات، أو حتى دروس، يمكن أن يستمدها المراقب العربى لما جرى فى جمهورية النيجر، التى أطاح انقلاب عسكرى فيها فى السادس والعشرين من يوليو بمحمد بازوم أول رئيس منتخب بها، واتخذت الرابطة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا والنيجر أحد أعضائها موقفا رافضا لهذا الانقلاب، اتساقا مع موقف الاتحاد الإفريقى من الانقلابات العسكرية، وصولا برؤساء الدول الأعضاء فى هذه الرابطة إلى التهديد بالتدخل العسكرى لإعادة الرئيس المخلوع لممارسة مهامه، وهو موقف لقى التأييد من فرنسا، الدولة الاستعمارية السابقة، ولم تعترض عليه الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد لقى الانقلاب فيما يبدو ترحيبا من المواطنين فى النيجر، والذين لم يكتفوا بالهتاف ضد فرنسا، ولكنهم أيضا وصلوا إلى حد رفع الأعلام الروسية والتى حذرت وزارة خارجيتها من عواقب التدخل العسكرى فيها، كما رحب يفجينى بريجوجين بالانقلاب.
قد يقول قائل: كيف يكون لهذه التطورات أى دلالة لوطن عربى مثخن بمشاكل داخلية فى بعض دوله، وبمحاولة ترميم علاقاته ببعض دول الجوار؟. هذا تساؤل له وجاهته، ومع ذلك فالنيجر ليست بعيدة عن الوطن العربى، فهى تشترك فى الحدود مع ليبيا ولها حدود أطول مع الجزائر، كما أن للتطورات التى جرت فى النيجر والمواقف التى اتخذت بسببها دلالات مهمة، منها موقف التنظيم الإقليمى فى الوطن العربى وأفريقيا من قضية الديمقراطية، ومنها انسجام هذه التطورات مع اتجاه عالمى لانحسار الديمقراطية، ومنها قضية التدخل العسكرى لاستعادة الديمقراطية، ومنها أخيرا الشعبية التى تكتسبها روسيا فى بعض دول الجنوب، وهى تخوض حربا بالتفويض فى أوكرانيا ضد حلف الأطلنطى بقيادته الأمريكية. وهى كلها قضايا مهمة فى الوطن العربى. ولذلك سيبحث هذا المقال فى دلالات هذه التطورات فى الوطن العربى.
المنظمات الإقليمية الأفريقية وقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان
اللافت للاهتمام فى هذه التطورات هو الموقف الذى اتخذته الرابطة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) والتى تضم خمس عشرة دولة فى غرب القارة، منها النيجر، من الانقلاب العسكرى الذى أطاح بالرئيس المنتخب. لم تكتف هذه الرابطة بإدانة الانقلاب العسكرى والمطالبة بإعادة الرئيس المنتخب، ولكنها تجاوزت ذلك إلى توجيه إنذار لم ينفذ بالتدخل العسكرى لتحريره وعائلته ووزرائه، ثم أعلنت أنها لا تستبعد أى خيارات فى تعاملها مع استمرار الوضع الانقلابى.
يتسق ذلك مع موقف الاتحاد الإفريقى من الانقلابات العسكرية عموما التى لا يكتفى باستنكارها ولكنه يوقف عضوية الحكومات التى يشكلها قادة الانقلاب. هل نتصور مثل هذا الموقف فى الوطن العربى عندما يسقط العسكريون حكومة منتخبة؟ جرت انقلابات عسكرية فى الوطن العربى فى العقود الماضية، ولم يؤثر ذلك إطلاقا على موقف الجامعة العربية من هذه الحكومات. جاء نظام البعث فى سوريا والعراق فى ١٩٦٣ نتيجة انقلابين عسكريين، وكذلك كان الحال فى كل من السودان وليبيا فى ١٩٦٩، ثم فى السودان مع عمر البشير فى ١٩٨٩، وفى الجزائر فى يناير ١٩٩٠، ومع ذلك لم تدن الجامعة العربية أيا من هذه الانقلابات بل على العكس رحبت بالحكومات المنبثقة عنها، والتى صارت فواعل مؤثرة فيها.
ويتسق موقف التنظيمات الإقليمية فى الوطن العربى وأفريقيا مع مواقفها العامة من قضية حقوق الإنسان. كانت الدول الأفريقية جنوب الصحراء وفى مقدمتها السنغال فى ظل ليوبولد سنغور أول رؤسائها بعد الاستقلال فى مقدمة المتشبثين بالدفاع عن حقوق الإنسان كموقف عام وخصوصا لأن الأفارقة هم أكثر الشعوب معاناة من انتهاك حقوق الإنسان، وتحديدا الحق فى المساواة وفى الحرية، واللذان استهزأ بهما الاستعماريون الأوروبيون بانهماكهم فى تجارة العبيد الذين استخدمهم الأوروبيون المهاجرون إلى الأمريكتين فى مزارع القطن وقصب السكر والمناجم وأعمال أخرى يندى لها الجبين. ولذلك تزعمت السنغال عضو الرابطة الاقتصادية لغرب أفريقيا منذ ١٩٨١ الدعوة لإبرام ميثاق إفريقى لحقوق الإنسان والشعوب دخل حيز الإنفاذ فى ١٩٨٦ وأدى إلى تشكيل اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، ثم محكمة إفريقية لحقوق الإنسان والشعوب يمكن أن تحاكم الحكومات الأفريقية المنضمة إلى ميثاقها إذا ما قدمت لها شكوى بانتهاكها هذه الحقوق.
تلكأ تبنى جامعة الدول العربية لميثاق عربى لحقوق الإنسان، وتمخضت جهودها فى هذا المجال وتحت ضغوط دولية إلى تشكيل لجنة عربية لحقوق الإنسان، جرت صياغة الميثاق العربى أول مرة فى ١٩٩٤، ثم جرى تحديثه تحت ضغوط دولية فى ٢٠٠٤ ودخل حيز التنفيذ فى ٢٠٠٨، ولم يؤد تنظيميا إلا إلى تشكيل لجنة لحقوق الإنسان لا يكاد أحد يسمع عن نشاط لها، واقتصرت جهود اللجنة معظم الوقت على إدانة انتهاك حقوق الشعب الفلسطينى على يد المحتل الإسرائيلى دون أن تتعرض لأوضاع حقوق الإنسان فى الدول العربية الأخرى.
انحسار الديمقراطية عالميا
الانقلاب على حكومة منتخبة فى النيجر يندرج فى إطار اتجاه عالمى يخالف ما جرى منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى، وما سمى فى ذلك الوقت بالموجة الثالثة للديمقراطية. على العكس من ذلك بدأ منذ بداية الألفية الثالثة التحول عن النظم المنتخبة انتخابا حرا؛ إما لصالح نظم عسكرية مثلما جرى فى ميانمار وتايلاند وفى عدد من الدول الأفريقية منها مالى وبوركينا فاسو وغينيا، أو بصعود قوى سياسية شعبوية تتنكر لبعض حقوق الإنسان وخصوصا الحق فى المساواة وهو ما جرى فى بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وإيطاليا، أو بتحدى النظم الليبرالية من جانب حكومات سلطوية فى الصين وروسيا وإيران وتركيا. بدا كما لو أن الوطن العربى سيعرف الانتقال إلى أوضاع أكثر ديمقراطية بعد ثورات الكرامة العربية فى شتاء ٢٠١١، ولكن لم يتحقق ذلك.
الانقلاب على حكومة منتخبة فى النيجر والترحيب بهذا الانقلاب من جانب قطاع من المواطنين لم يكن بالضرورة رفضا للديمقراطية، ولكنه كان أملا فى أن يؤدى هذا التغيير إلى خروج المواطنين والمواطنات من دائرة الفقر والعوز التى استمر فيها غالبية الشعب النيجرى. ولا تحمل النخبة العسكرية بقيادة الجنرال عبدالرحمن تيانى قائد الحرس الجمهورى السابق مشروعا اقتصاديا يؤدى بالنيجر إلى الخروج من هذه الدائرة، ولكن المواطنين الذين لا حول لهم ولا قوة فى إدارة شئون بلادهم يتمنون أن يكون تغيير شخص الحكام بداية تحسن فى أوضاعهم المعيشية، وليس هناك ما يوحى بأن ذلك سيكون هو الحال.
لم ينتج عن قدوم العسكريين لحكم البلدين المجاورين أى اختلاف كبير عما سبق حكمهم. ربما لو كانت هناك النية لتـأميم مناجم اليورانيوم والفحم وخام الحديد والفوسفات والدهب والمعادن الأخرى التى تسيطر عليها الشركات الأجنبية فى النيجر، والاستفادة منها بما يخدم غالبية المواطنين والمواطنات ويدفع بالتنمية الاقتصادية المتوازنة للبلاد، لكان حقا لهم أن يسعدوا بهذا التحول لحكم عسكرى. ولكن التعليقات حول أسباب التحول فى النيجر تشير إلى أن دوافع الجنرال عبدالرحمن شخصية بحتة تتعلق بخشيته أن يطيح الرئيس المنتخب به من منصبه. وربما نتوقع فى المستقبل أن يخرج الشعب النيجرى مرحبا بعزل الجنرال عبدالرحمن نفسه عندما يخفق فى تحقيق ما يتطلعون إليه، ويرحبون فى هذه الحالة بجنرال آخر أو يطالبون باستعادة الحكم المدنى وهكذا دواليك.
ولكن كون انحسار الديمقراطية الليبرالية اتجاها عالميا لا يعنى بالضرورة الاستسلام لهذا الاتجاه. فليست هناك حتميات حديدية فى شئون البشر، والتطور الإنسانى يتوقف على ما يريدونه فى ضوء تجاربهم وما يتعلمونه منها. فإذا كان الحكم الاستبدادى الذى تجرعوا مرارته قد أبعدهم عما يتوقعون من حياة كريمة، فليس هناك ما يجعلهم أسرى لهذا الحكم أبد الدهر إذا ما ساد الوعى بينهم أنه ليس طريقهم لمثل هذه الحياة.
التدخل العسكرى لاستعادة الديمقراطية
ليس هناك ما يقطع بأن دول الرابطة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا ستعقد العزم على التدخل العسكرى فى النيجر لاستعادة الحكومة المنتخبة، فهناك خلافات بينها حول ذلك، وقد أخفقت فى التدخل بعد انتهاء فترة الإنذار الذى وجهته لقائد الانقلاب الأسبوع الماضى. واقتصر التأييد الدولى لمثل هذا التدخل على فرنسا. وتشير التقارير إلى أن الولايات المتحدة ودولا أوروبية مهتمة بأحوال النيجر وفى مقدمتها ألمانيا وإيطاليا تفضل تسوية سلمية. كما أن مثل هذا التدخل، إن تم، فقد يلقى مقاومة شعبية من المواطنين. ولن يقدر لحكومة جاءت بالسلاح الأجنبى أن تستقر طويلا فى السلطة. ولعلنا فى الوطن العربى ندرك كيف أن أوضاع الشعوب تسوء عندما تحاول قوى أجنبية فرض تغيير النظام القائم بالقوة. فلا ينجح النظام الذى استند لمثل هذا التدخل فى الاستقرار أو تحسين أوضاع المواطنين والمواطنات، ويؤدى إخفاقه إلى حنينهم لاستعادة الحكم الاستبدادى السابق الذى كان يضمن لهم على الأقل الأمن والسلامة الشخصية إن هم ابتعدوا عن الاهتمام بالسياسة، كما ضمن لهم على الأقل الوفاء بحاجاتهم الأساسية. هذا هو الدرس الذى خرجت به الشعوب من محاولة تغيير النظام بالتدخل الأجنبى فى الوطن العربى خصوصا فى العراق وليبيا.
روسيا هى الأمل
لا شك أن رفع المواطنين المؤيدين للحكم العسكرى فى النيجر للأعلام الروسية لما يدعو للتأمل. على الرغم من التعاطف مع روسيا فى الوطن العربى وبين شعوب كثيرة بين دول الجنوب تقف على الحياد فى الصراع الدائر بين أوكرانيا المدعومة بحلف الأطلنطى وروسيا إلا أن قلة منها خرج مواطنوها يرفعون الأعلام الروسية. ومع ذلك فهناك دلالات كثيرة لهذا المشهد فى النيجر. هو أولا رفض للسيطرة الفرنسية على النيجر، تلك السيطرة التى استمرت بعد الاستقلال واقترنت باستمرار النهب الاستعمارى لثروات النيجر من جانب الشركات الفرنسية، وهو ثانيا رفض للأساليب التى لجأت لها القوات الفرنسية فى محاربتها للتنظيمات الإسلامية المتطرفة التى نشطت فى النيجر ودول غرب أفريقيا، وهو ثالثا الوقوف إلى جانب دولة تقاوم محاولات حلف الأطلنطى ــ بقيادة الولايات المتحدة ــ فرض الهيمنة بالقوة المسلحة بادعاء تأييد حق شعب أوكرانيا فى تقرير المصير بينما دافعه الحقيقى تدمير قدرة روسيا على أن تكون قطبا له وزنه على قمة النظام الدولى، وهو رابعا ميل لنموذج آخر فى التنمية رفضا للنموذج الغربى الذى لم يحقق لشعب النيجر ما يتطلع إليه من عيش كريم.
ربما تصور هؤلاء المواطنون الذين يرفعون الأعلام الروسية أن روسيا اليوم هى الاتحاد السوفيتى القديم الذى كان هو الدولة الاشتراكية الأولى فى العالم والتى كانت تعد بالقضاء على الاستغلال الاستعمارى وتحقيق المساواة وتوفير الحياة اللائقة لكل المواطنين. وربما تصور هؤلاء المواطنون أن مقدم قوات فاجنر سيحقق لهم الانتصار على ميليشيات داعش وبقايا تنظيم القاعدة وبوكو حرام مثلما حدث فى دول إفريقية مجاورة.
مسكينة الجماهير الأفريقية. تتشبث ببارقة خادعة للأمل فى واقع تغييره للأفضل تكتنفه صعوبات بالغة.

نقلا عن الشروق