ملشنة الجيش:
دلالات المناورات العسكرية المشتركة بين إيران وسوريا

ملشنة الجيش:

دلالات المناورات العسكرية المشتركة بين إيران وسوريا



يمكن تفسير اهتمام إيران بإجراء مناورات عسكرية مشتركة مع سوريا في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في السعي إلى “ملشنة” الجيش السوري، وتوجيه رسائل تحدٍ إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وتكريس النفوذ داخل سوريا على المستويات المختلفة، والاستعداد مسبقاً لأية تداعيات سلبية قد تفرضها الحرب في أوكرانيا، والرد على التهديدات الإسرائيلية المتكررة.

يبدو أنّ مرحلة جديدة من التعاون العسكري بين إيران وسوريا سوف تبدأ في الفترة القادمة، بعد تغير توازنات القوى الاستراتيجية داخل سوريا لصالح نظام الرئيس بشار الأسد، عنوانها الرئيسي هو “ملشنة الجيش السوري” عبر إعادة هيكلته بناءً على توجهات وأفكار النظام الإيراني، وهي العملية التي يتولى إدارتها فيلق القدس التابع للحرس الثوري بقيادة إسماعيل قاآني، الذي أشرف، حسب وسائل الإعلام الإيرانية، على المناورات العسكرية المشتركة التي أجريت بين القوت السورية والإيرانية في 21 سبتمبر الجاري، والتي ركزت في المقام الأول على “التصدي للتحديات العسكرية والأمنية التي تواجه سوريا”.

دوافع عديدة

يمكن تفسير اهتمام إيران بتوسيع نطاق التعاون العسكري مع سوريا ليشمل إجراء مناورات عسكرية مشتركة بإشراف فيلق القدس في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها في:

موقع “توسعه ايراني”: زيارة قائد فيلق القدس الإيراني إلى سوريا من أجل حضور المناورات المشتركة

1- إعادة هيكلة الجيش السوري: ويعني ذلك أن إيران تسعى إلى تغيير طبيعة وأسلوب عمل الجيش السوري لكي يتماهى بشكل أكبر مع طبيعة ومهام الحرس الثوري الإيراني، الذي يعد القسم الثاني غير التقليدي في المؤسسة العسكرية الإيرانية.

وربما يكون ذلك قسماً من سياسة بعيدة المدى تتبناها إيران وتقوم في الأساس على إعادة تشكيل هذا الجيش لكي يصبح أقرب إلى نمط الحرس الثوري، أو بمعنى أدق “ملشنة الجيش” بحيث يصبح متماهياً مع الأدوار التي تقوم بها المليشيات الشيعية المسلحة التي قامت إيران بتأسيسها وتدريبها وتمويلها لكي تدير من خلالها الحرب بالوكالة مع خصومها الإقليميين والدوليين.

وقد كان لافتاً في هذا السياق أن إيران بدأت من أجل إضفاء وجاهة خاصة على هذا التوجه في الاستناد إلى أن تجربتها في الحرب مع العراق (1980-1988) شبيهة إلى حد كبير بالتجربة التي خاضتها سوريا منذ اندلاع الأزمة في مارس 2011، حيث كانت الحرب مع العراق بمثابة البداية الحقيقية لتصاعد دور ونفوذ الحرس الثوري على المستويين الداخلي والخارجي، وهو ما تحاول إيران تكراره في حالة سوريا.

2- استمرار الشكوك في ولاء الجيش السوري: لا ينفصل هذا التوجه عن الجهود الحثيثة التي تبذلها إيران من أجل تعزيز حضورها العسكري داخل سوريا. وهنا، فإن الحرس الثوري الإيراني ربما يرى أن هذه العملية لن تؤتي نتائج إيجابية إلا من خلال إعادة هيكلة الجيش السوري، خاصة في ظل التوجهات التي يتبناها الحرس بصفة مستمرة وتقوم في الأساس على عدم الرهان كلية على ولاء الجيوش التقليدية، ومن بينها الجيش السوري.

إذ لا يستبعد الحرس أن يتجه هذا الجيش بعد تغير توازنات القوى داخل سوريا لصالح النظام إلى محاولة استعادة نفوذه وسيطرته داخل سوريا، وهو تحرك سوف يواجه بعقبة النفوذ الإيراني ذاته. ومن هنا فإن الحرس الثوري ربما يرى أن الظروف الحالية تبدو ملائمة لاستباق أي تحرك من الجيش السوري قد لا يتوافق بالضرورة مع مصالحه وحساباته داخل سوريا خلال المرحلة الماضية.

3- تكريس النفوذ داخل سوريا: تبدي إيران قلقاً ملحوظاً إزاء التطورات الأخيرة التي طرأت على صعيد العلاقات بين سوريا والعديد من القوى الإقليمية والدولية. وفي رؤيتها فإنه بقدر ما يمكن أن تفرض هذه التطورات تداعيات إيجابية تسهم في تقليص حدة العزلة التي يواجهها النظام السوري، بقدر ما يمكن أن تنتج تأثيرات سلبية غير مباشرة على مصالح إيران نفسها، خاصة أنها سوف تساهم في توسيع هامش الخيارات المتاحة أمام النظام السوري للتعامل مع تلك التطورات بما تقتضيه رؤيته لمصالحه وحساباته، وبصرف النظر عن مصالح وحسابات إيران نفسها.

وربما لا ينفصل ذلك عن تزايد القلق الإيراني من توسع حضور بعض القوى الإقليمية داخل سوريا، خاصة مع اقتراب مرحلة بدء عمليات إعادة الإعمار في سوريا، والتي تسعى تلك القوى إلى الحصول على الحصة الأكبر فيها، وهو ما دفع اتجاهات عديدة في إيران إلى توجيه انتقادات للسياسات التي تبنتها الحكومات المتعاقبة والتي لم توفر المناخ المناسب لحصول إيران على نسبة أكبر من عمليات إعادة الإعمار.

4- التحسب لتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية: تراقب إيران بحذر تطورات الحرب التي تصاعدت حدتها بين روسيا وأوكرانيا منذ 24 فبراير 2022، وترى أن هذه الحرب يمكن أن تكون لها انعكاسات مؤجلة على الساحة السورية، خاصة في حالة ما إذا اتجهت إلى مسارات قد لا تتوافق مع مصالح روسيا، على نحو يمكن أن يفرض ضغوطاً قوية على الأخيرة ويدفعها إلى إجراء تغيير في مواقفها إزاء التطورات التي تشهدها الساحة السورية.

وبمعنى آخر، فإنها لا تستبعد أن تقدم روسيا، في حالة تعرضها لمزيد من الضغوط بسبب الحرب الأوكرانية، على تعديل سياستها في سوريا باتجاه الوصول إلى نوع من التفاهمات مع الخصوم الدوليين، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، في إطار مقايضة يتم من خلالها الوصول إلى ترتيبات سياسية وأمنية داخل سوريا وأوكرانيا، بشكل يمكن أن ينتج تأثيرات سلبية على مصالح إيران، التي انخرطت بدورها في الأزمتين، حيث تواجه اتهامات في المرحلة الحالية بتقديم مزيد من الدعم العسكري لروسيا من خلال الطائرات من دون طيار لمساعدتها على إدارة عملياتها العسكرية في أوكرانيا، إلى جانب دورها الأساسي في الصراع السوري منذ بداية الأزمة في مارس 2011.

5- مواجهة التحركات العسكرية الأمريكية: ترى إيران أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى وضع عقبات أمام استمرار الدعم الإيراني للحلفاء الإقليميين في سوريا ولبنان، عبر العراق. ومن هنا، فإنها اعتبرت أن التحركات العسكرية الأمريكية الأخيرة على الحدود بين العراق وسوريا كان الهدف منها هو تأكيد قدرتها على قطع الطريق الذي يبدأ من إيران ويمر عبر العراق وينتهي على الساحل السوري في اللاذقية وطرطوس، ومنها إلى معاقل حزب الله في جنوب لبنان.

ومن هنا، وجهت إيران رسائل عديدة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ففضلاً عن تكثيف الدعوة إلى انسحاب القوات الأمريكية من المنطقة، فإنها منحت الضوء الأخضر لحلفائها من المليشيات الشيعية العراقية تحديداً لتوجيه تهديدات إلى القوات الأمريكية بإمكانية تجديد عمليات استهدافها مرة أخرى خلال المرحلة القادمة، بعد أن توقفت تلك العمليات في الشهور الأخيرة بفعل التفاهمات التي تجري بين طهران وواشنطن وأسفرت في النهاية عن إبرام صفقة تبادل السجناء التي تم تنفيذها بالفعل في 18 سبتمبر الجاري.

وفي هذا السياق، تأتي المناورات العسكرية الأخيرة التي أشرف عليها فيلق القدس، كرسالة تحدٍ أخرى إلى الولايات المتحدة الأمريكية مفادها أن إيران باقية في سوريا، وأن أي جهود قد تبذل لعرقلة وجودها ونفوذها سوف تواجه بعمليات قد ترفع كلفة الوجود العسكري الأمريكي نفسه داخل سوريا خلال المرحلة القادمة.

6- الرد على التهديدات الإسرائيلية: توازى الإعلان عن إجراء المناورات العسكرية المشتركة مع التهديدات التي وجهها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى إيران، خلال كلمته على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 22 سبتمبر الجاري. فقد قال نتنياهو: “طالما أنا رئيس حكومة إسرائيل، سأبذل كل ما في قدرتي لأمنع إيران من التزوّد بسلاح نووي”، مضيفاً: “قبل كل شيء، يجب مواجهة إيران بتهديد نووي ذي مصداقية”، قبل أن يسارع مكتبه إلى تغيير كلمة “تهديد نووي” بـ”تهديد عسكري”. وهنا فإن إيران لم تهتم كثيراً بسعي مكتب نتنياهو إلى تغيير الكلمة، وإنما اعتبرت أن التهديدات الإسرائيلية وصلت إلى ذروتها، بشكل دفعها إلى توجيه رسائل مقابلة، على غرار المناورات العسكرية المشتركة في سوريا، واستعراض الصواريخ الباليستية القادرة على الوصول إلى “قلب إسرائيل” حسب تصريحات القادة العسكريين الإيرانيين.

نفوذ مستمر

في ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن إيران لن تتوانى عن استغلال أية فرصة لتعزيز نفوذها داخل سوريا، حتى رغم تغير توازنات القوى لصالح النظام السوري وتراجع الحاجة إلى استمرار الدعم العسكري من جانب حلفاء النظام السوري. إذ ترى إيران أنها استنزفت كثيراً من مواردها في الحرب السورية، وهي غير مستعدة للتراجع عن استغلال ذلك في سبيل الاقتراب من حدود إسرائيل وإدارة التصعيد المستمر مع الأخيرة من هناك.