اختتمت القوات التركية، في 9 يونيو، مناورات عسكرية شاملة استمرت لمدة شهر، في ولاية أزمير المطلة على بحر إيجة، بمشاركة 37 دولة، تحت اسم “أفس- 2022”. وبحسب وزارة الدفاع التركية، تُعتبر هذه المناورات هي الأضخم، حيث شارك فيها أكثر من 10 آلاف جندي من الجيش التركي، وتضمنت مناورات عسكرية على كافة الأسلحة وبالذخيرة الحية شاركت فيها سفن حربية، وغواصات، وسفن إنزال بحري، وطائرات مسيرة ومروحية وحربية.
وقد تزامنت المناورات مع تصاعد حدة التوتر بين اليونان وتركيا، واتهام الثانية للأولى بتسليح جزر بحر إيجة في انتهاك لمعاهدة لوزان 1923، واتفاقية باريس 1947. وحذر الرئيس التركي أثينا في خطاب ألقاه بعد انتهاء مناورات “أفس” من تسليح الجزر في بحر إيجة، مطالباً إياها بالابتعاد عن “التصرفات والأحلام التي ستؤول إلى الندم”. وسبق هذه التحذيرات قرار الرئيس أردوغان مطلع يونيو الجاري بإلغاء مجلس التعاون بين البلدين، ووقف المحادثات مع أثينا.
في المقابل، اعتبرت اليونان المناورات التركية على بحر إيجة بمثابة “رسالة تهديد” لها، كما حذرت من أن أنقرة ربما تخطط لاحتلال الجزر اليونانية القريبة من السواحل التركية، ولذلك تبرر أثينا عسكرة الجزر التي يفترض أنها منزوعة السلاح، بالتهديد الذي تمثله تركيا، خاصة بعد انتهاك سلاح الجو التركي المجال الجوي اليوناني أكثر من مرة طوال الأشهر التي خلت.
دلالات رئيسية
يحمل توقيت إجراء المناورات العسكرية التركية في بحر إيجة، والتي جاءت بالتزامن مع التصعيد العسكري بين اليونان وتركيا؛ عدة دلالات وأهداف، يمكن تناولها على النحو التالي:
1- الردّ على عسكرة اليونان جزر بحر إيجة: نشرت اليونان في يونيو الجاري قوّات عسكرية في جزر بحر إيجة المتنازع عليها مع تركيا، وأشارت إلى أن قواتها تمركزت في هذه الجزر رداً على وجود وحدات عسكرية وطائرات وسفن إنزال تركية على الساحل المقابل لليونان، بالإضافة إلى الغزو التركي لجزيرة قبرص عام 1974. كما تضمن الرد اليوناني على الانتقادات والتحذيرات التركية لمخاطر عسكرة حكومة أثينا بحر إيجة، نشر الخارجية اليونانية خرائط تعود إلى عام 1923 قالت إنّها تدعم حق اليونان في الرد على أية تحركات عسكرية تركية في بحر إيجة.
في هذا السياق، جاءت المناورات العسكرية التركية التي تحمل في طياتها رسائل مباشرة لليونان، مفادها أن أنقرة قادرة على الرد عسكرياً على اليونان، وأن أطرافاً إقليمية ودولية تدعم حقوقها في بحر إيجة، بدليل مشاركة نحو 37 دولة في مناورات “أفس 2022”. كما كان لافتاً تصريحات وزير الخارجية التركي عشية انتهاء مناورات قوات بلاده، حيث قال: “إنّ اليونان انتهكت شرط عدم تسليح الجزر في بحر إيجة، وإن لم تتراجع عن هذا الانتهاك فإن سيادتها عليها محط نقاش”.
2- امتلاك أنقرة تقنيات عسكرية متقدمة: لا تنفصل المناورات العسكرية التركية عن مساعي أنقرة إظهار التقنيات العسكرية المتقدمة التي تمتلكها، والتطور الهائل في الأسلحة النوعية التي يستخدمها الجيش التركي. وهنا، يمكن فهم اهتمام وسائل الإعلام التركية الرسمية بمناورات “أفس 2022″، وتصدير مشاهد تلفزيونية مختلفة طوال فترة المناورات لطائرات حربية ومروحية ومسيرة مختلفة، وهي تنفذ تدريبات بالذخيرة الحية، إلى جانب عمليات إنزال جنود ومعدات عسكرية من سفن حربية، إضافة إلى تجريب العديد من الأسلحة والصواريخ تركية الصنع.
3- تحييد ضغوط الخصوم في شرق المتوسط: تستهدف المناورات العسكرية التركية في بحر إيجة التأثير على مقاربات قوى الممانعة للتحركات التركية في بحر إيجة ومنطقة شرق المتوسط، وبخاصة الولايات المتحدة وباريس وبرلين، وهي العواصم التي تدعم اليونان ضد أنقرة. واتهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الولايات المتحدة والدول الأوروبية، بنقل كميات كبيرة من الأسلحة والطائرات والمروحيات إلى اليونان. كما اتهم الولايات المتحدة بالرضوخ للضغوط اليونانية، حيث أشار إلى تجاوب بعض أعضاء الكونجرس مع رئيس الوزراء اليوناني عشية زيارته واشنطن في 15 مايو الماضي، ومطالبته بعرقلة صفقة طائرات F16 مع تركيا، كما طالب “ميتسوتاكيس” رئيس الوزراء اليوناني، الكونجرس الأمريكي أن يأخذوا بعين الاعتبار الوضع في شرق البحر المتوسط، فيما يتعلق بمبيعات الأسلحة المحتملة لتركيا.
4- حماية استثمارات الغاز المحتملة في بحر إيجة والبحر الأسود: تشير بعض التقارير إلى أن تركيا تخطط لاستثمار نحو 10 مليارات دولار للتنقيب عن مكامن الغاز في منطقة بحر إيجة والبحر الأسود، خاصة بعد الإعلان عن اكتشافات غازية خلال عام 2020 في حقل “ساكاريا” بمنطقة البحر الأسود، كما اتجهت تركيا مؤخراً لإرسال سفن الاستكشاف والتنقيب التركية للعمل في بحر إيجة. وجدير بالذكر أن شركة النفط التركية “TPAO” أكملت بنجاح في يناير الماضي اختبار تدفق الغاز الطبيعي في بئر “Türkali-1” التابع لحقل ساكاريا للغاز الطبيعي في البحر الأسود. ناهيك عن إعلان وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي “فاتح دونماز”، في ديسمبر 2021، بدء سفينة “الفاتح” عملية تنقيب جديدة عن الغاز في بئر “توركالي 7” بالبحر الأسود، فضلاً عن إرسال سفن أخرى في منطقة بحر إيجة.
في هذا السياق، فإن حرص تركيا على كثافة المناورات العسكرية في مناطقها البحرية، ومنها بحر إيجة، والمناطق المتنازع عليها مع اليونان؛ لا ينفصل عن تأكيد أنقرة قدراتها على حماية استثماراتها للتنقيب عن الطاقة في إيجة أو المتوسط أو غيرها من السواحل البحرية، وكذلك إظهار قوتها وسيادتها في إطار رادع للجهات المتنافسة معها أو التي تريد تحييدها عن الحصول على جانب من مكامن الغاز والطاقة في بحر إيجة والبحر الأسود، ومنطقة المتوسط، وخاصة قبرص واليونان.
تداعيات محتملة
تفرض المناورات والتحركات العسكرية الأخيرة في بحر إيجة -في مجملها- تداعيات عديدة يمكن تناول أبرزها على النحو التالي:
1- تصاعد عسكرة الأزمة مع اليونان: أدت المناورات العسكرية إلى تصاعد حدة التصريحات والتصريحات المضادة بين أنقرة وأثينا، ففي الوقت الذي دعا فيها لمتحدث باسم الحكومة اليونانية جيانيس أويكونومو، في 9 يونيو الجاري، تركيا إلى وضع نهاية لتكتيكات الاستفزاز التي تنتهجها، وأن تدرك أن “الطريق الوحيد للمضيّ قدماً للأمام هو التوصل إلى تفهم مسؤول وصادق”؛ فقد هاجم الرئيس التركي حكومة اليونان عشية ختام مناورات “أفس 2022″، حيث قال في خطابه: “عودوا إلى رشدكم”.. “يجب نزع السلاح من الجزر. أنا لا أمزح”.
والواقع، أن فشل جولات الحوار بين أنقرة وأثينا، خاصة بعد إلغاء الرئيس التركي مجلس الأعمال المشترك بين تركيا واليونان، قد يدفع البلدين إلى زيادة قدراتهما الدفاعية، وهو ما يفسر اهتمام اليونان بتطوير تحالفاتها العسكرية مؤخراً مع فرنسا والولايات المتحدة التي تمتلك 9 قواعد عسكرية في اليونان، ناهيك عن اتجاه تركيا إلى تطوير برامج صناعاتها الدفاعية، والإعلان المستمر عن إجراء مناورات عسكرية كنوع من الردع الاستباقي للخصوم، وبخاصة اليونان.
2- زيادة أعباء الأمن الإقليمي: أدى تراجع تأثير جولات الحوار بين اليونان وتركيا لتفكيك القضايا الخلافية بينهما، والاتجاه نحو العمليات العسكرية النوعية في بحر إيجة، إلى فرض المزيد من الأعباء الأمنية على دول الإقليم، خاصة أنه سيؤدي إلى حدوث تحولات في منظومة الأمن الإقليمي، وهو يظهر في اتجاه اليونان إلى توقيع اتفاق دفاعي مع باريس في سبتمبر الماضي، تحصل بمقتضاه القوات البحرية اليونانية على فرقاطات بحرية فرنسية. كما اتجهت قبرص بدورها إلى تحسين ترسانتها العسكرية عبر توقيع اتفاقيات دفاعية مع واشنطن في العام الماضي.
3- خدمة الأجندات الانتخابية: قد يساهم التحدي التركي لليونان وحلفائها في الإقليم وبحر إيجة من خلال كثافة المناورات العسكرية إلى دعم الحضور السياسي للرئيس التركي في الداخل، والذي يعاني تراجعاً لافتاً في شعبيته بسبب تدهور الأوضاع المعيشية وتراجع مؤشرات الاقتصاد. لذلك، فإن مناورات “أفس 2022″، والتصدي لعمليات التسليح التي تقوم بها اليونان للجزر المتنازع عليها في بحر إيجة، قد يوفر بيئة خصبة للرئيس أردوغان، ويرفع منسوب التأييد له في الشارع التركي قبل الانتخابات المقرر لها عام 2023.
ضبط التوتر
ختاماً، يمكن القول إنه إذا كانت المناورات العسكرية التركية التي اختُتمت أعمالها في 9 يونيو الجاري، تكشف عن مساعي تركيا لتقليص التحركات اليونانية ضد المصالح التركية في بحر إيجة، وتستهدف في الوقت ذاته تحييد ضغوط القوى الدولية التي تعارض تحركات أنقرة في مناطق نفوذها البحري؛ فإن ثمة اعتبارات متنوعة -في المقابل- قد تدفع أنقرة واليونان إلى ضبط حدود التوتر، وعدم الدخول في صدام عسكري، خاصة في ظل تراجع اقتصاد البلدين، وعدم رغبة القوى الدولية في نزاع جديد يُضاف إلى الأزمة الأوكرانية التي حملت ارتدادات سلبية على الغرب، إلا أن تراجع فرص الحوار بين اليونان وتركيا ينذر بمخاطر جمة.