إدارة الخلافات:
دلالات قصف روسيا على مناطق خفض التصعيد بشمال سوريا

إدارة الخلافات:

دلالات قصف روسيا على مناطق خفض التصعيد بشمال سوريا



تعكس الضربات الجوية المكثفة التي شنّتها المقاتلات الروسية، في 26 مايو الجاري، للمرة الأولى منذ 4 شهور، على مناطق “خفض التصعيد” أو ما يعرف بـ”منطقة بوتين – أردوغان” الفاصلة بين مناطق النظام السوري وفصائل المعارضة الموالية لتركيا، في جنوب محافظة إدلب، تصاعد الخلافات بين موسكو وأنقرة. وتبدو هذه الضربات مرشحة لمزيد من التصعيد خلال الفترة القادمة، بعدما ردت فصائل المعارضة و”هيئة تحرير الشام” على الغارات الروسية الجديدة بقصف مباشر براجمات الصواريخ، استهدف مقراً قيادياً لعمليات قوات النظام السوري في منطقة الجب الأحمر بريف اللاذقية الشرقي.

وتزامنت هذه الضربات مع مساعي روسيا لحل معضلة إدلب من خلال الضغط على تركيا من أجل إخراج العناصر المسلحة منها، كما أنها تأتي في ظل جهود روسية متواترة لتقليص حدة التوتر بين الأخيرة وسوريا، وتعزيز فرص التطبيع بين البلدين.

أهداف متعددة

يمكن تفسير استهداف المقاتلات الروسية للمناطق الواقعة في جنوب الطريق الدولي حلب – اللاذقية M4، في جنوب مدينة إدلب، في ضوء أهداف عديدة يتمثل أبرزها في:

1- الرد على التصريحات التركية: لا تنفصل التحركات العسكرية الروسية الأخيرة في إدلب عن رغبة موسكو في الرد على التصريحات التي خرجت من أنقرة بشأن وجودها العسكري في مناطق الشمال السوري، حيث جدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 25 مايو الجاري، التأكيد على أن بلاده لن تسحب قواتها من شمال سوريا، وأضاف أن تركيا ستحافظ على انتشار قواتها في سوريا، إذ إن لديها أكثر من 900 كيلومتر من الحدود المشتركة معها، وهناك تهديد “إرهابي” مستمر يستدعي الوجود العسكري.

ولم يكن هذا التصريح هو الأول من نوعه، فقد سبق ذلك تأكيد وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو، في 25 أبريل الفائت، على أن “انسحاب بلاده من شمال سوريا وشمال العراق يعني توقف العمليات العسكرية ضد الإرهاب، واقتراب الإرهابيين من حدودنا”، وتابع: “وهذا يشكل تهديداً لأمننا القومي”.

2- توسيع نطاق نفوذ موسكو: يعكس القصف الروسي الأخير رغبة موسكو في توسيع نطاق نفوذها في سوريا، وإثبات وجودها العسكري في المشهد السوري، خاصة أنها غابتعن المشهد العسكري السوري لعدة شهور بسبب انشغالها بالحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، فإن القصف الروسي يوجه رسالة إلى تركيا مفادها أن روسيا قد تتخذ مواقف مغايرة للحضور التركي في سوريا، إذا ما أصرت أنقرة على رفض انسحاب قواتها من الشمال السوري، أو وضعت عثرات على طريق التطبيع التركي-السوري. ولذلك، ليس من المستبعد أن تكون الضربات الروسية الأخيرة على إدلب مقدمة لعملية عسكرية محتملة مشتركة بين قوات النظام السوري والطيران الروسي بهدف التقدم والسيطرة على المناطق الواقعة جنوب الطريق الدولي M4، وأبرزها جبل الزاوية ومنطقة الأربعين ومدينة أريحا، إضافة إلى القسم الشمالي من سهل الغاب.

3- تعزيز القدرة على تغيير التوازنات: جاءت الضربات العسكرية الروسية على مناطق واقعة في جنوب الطريق الدولي حلب – اللاذقية M4، بعد نحو أسبوعين من لقاء وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو مع نظيره السوري فيصل المقداد لأول مرة منذ 10 سنوات في موسكو، بالإضافة إلى اتجاه تركيا للتهديد باستمرار العمليات العسكرية في مناطق الشمال السوري ضد مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد). ولذلك، من شأن تلك الضربات الجوية أن تؤكد أن موسكو تملك الكثير من أوراق الضغط في سوريا، وأنها قادرة على تغيير التوازنات في أي وقت. ولا شك أن استهداف الغارات الجوية الروسية الأخيرة للأهداف المادية من دون التركيز على العنصر البشري، يتضمن رسائل مباشرة لتركيا بإمكانية رفع تكلفة الصراع، وأن الحضور الذي عززته أنقرة في شمال سوريا بدعم من المليشيات الموالية لها، لا يعني تكريس النفوذ، أو القدرة على تجاوز الرغبة الروسية بشأن حسم الخلافات التركية-السورية.

4- وضع قواعد اشتباك جديدة: عززت تركيا في مايو الجاري من تواجدها العسكري في سوريا من خلال إرسال معدات عسكرية من بينها دبابات وراجمات صواريخ إلى مواقعها ونقاطها وقواعدها العسكرية المنتشرة على طول خطوط التماس في منطقة “خفض التصعيد”، بداية من مناطق شرقي اللاذقية مروراً بشمال حماة وجنوب إدلب وصولاً إلى غربي حلب، لمنع أي عمل عسكري لقوات النظام السوري وحلفائه، من شأنه التوسع على حساب مناطق المعارضة الموالية لتركيا شمال غربي سوريا.

وفي هذا السياق، تعتبر اتجاهات عديدة أن الضربات الجوية الروسية الأخيرة قد تكون بداية مرحلة جديدة من المواجهة بين الطرفين، على نحو يعزز فكرة فرض قواعد اشتباك جديدة، خاصة مع استمرار الملفات الخلافية بين أنقرة ودمشق، وصعوبة إنجاز تطبيع كامل بين البلدين في التوقيت الحالي بسبب إصرار تركيا على الاحتفاظ بقواتها شمال سوريا.

مساران رئيسيان

على الرغم من المصالح البراجماتية والتعاون الاستراتيجي بين أنقرة وموسكو في ملفات إقليمية ودولية متعددة، في الصدارة منها الوساطة التركية في حل أزمة الحبوب الأوكرانية، ورفض تركيا الانضمام للعقوبات الغربية المفروضة على موسكو بسبب حربها ضد أوكرانيا، فضلاً عن السماح لتركيا بتسديد جانب من وارداتها الغازية من موسكو بالروبل؛ إلا أن الغارات الجوية الأخيرة التي شنها الطيران الروسي على “منطقة بوتين – أردوغان” في سوريا تشيرإلى أن سوريا تمثل محور تضارب مصالح بين البلدين، حيث لا تخفي موسكو امتعاضها من دعم أنقرة للتنظيمات التي تصنفها موسكو ودمشق إرهابية في إدلب، كما تعارض إصرار أنقرة على بقاء وجودها العسكري شمال سوريا، في حين ترى أنقرة أن موسكو تدعم التحركات العسكرية للنظام السوري ضد الجماعات الموالية لها في الداخل السوري، بالإضافة إلى استمرار الرفض الروسي للعمليات العسكرية التركية ضد الأكراد في شمال سوريا.

ويمكن القول إن ثمة سيناريوهين رئيسيين للمواجهات الحالية: أولهما، توجه موسكو وأنقرة نحو احتواء الخلافات بينهما على الساحة السورية أو على الأقل تجميد الملفات العالقة، حيث قد يدفع النهج البراجماتي البلدين إلى معالجة الأزمات الطارئة من أجل الحفاظ على المصالح المشتركة، وضمان استمرار جهود التقارب بين أنقرة ودمشق برعاية روسية.

وثانيهما، توسيع نطاق المواجهات بين موسكو من جهة، وتركيا والجماعات الموالية لها في الداخل السوري من جهة أخرى، ويعزز هذا السيناريو مسارعة المليشيات الموالية لتركيا للرد على الغارات الجوية الروسية. بيد أن هذا السيناريو يبدو مستبعداً بالنظر إلى التطور الإيجابي الحادث في العلاقات الروسية-التركية، وهو ما قد يسمح للبلدين بإعادة حساباتهما، والوصول إلى نقطة توازن بشأن القضايا الخلافية على الساحة السورية. ختاماً، يمكن القول إن هناك تحديات عديدة تواجه استمرار التفاهمات الروسية–التركية على الساحة السورية، وهو ما تعكسه عودة موسكو إلى آلية الغارات الجوية ضد الفصائل الموالية لتركيا في مناطق خفض التصعيد. بيد أن براجماتية الطرفين قد تؤدي إلى انتهاج سياسة مرنة لاحتواء الخلافات، خاصة أن حساباتهما المعقدة مع الخصوم الغربيين تدفعهما نحو احتواء التوتر الحالي.