أصدر القضاء التركي، في 14 ديسمبر الجاري، حكماً بالسجن لمدة عامين على رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو بتهمة إهانة أعضاء المجلس الأعلى للانتخابات، ووصفهم بأنهم “حمقى”. كما تضمن الحكم تفعيل المادة 35 من قانون العقوبات التركي، التي تفرض حظراً على النشاط السياسي للمدانين بعقوبة تتجاوز العامين، وهو ما يعني عملياً منع أوغلو المنافس المحتمل للرئيس رجب طيب أردوغان من الترشح في الانتخابات الرئاسية المقرر لها منتصف عام 2023.
ويعتبر مراقبون أن الحكم على أوغلو بالسجن سياسي وغير قانوني، ويعكس تصاعد مخاوف الحزب الحاكم من دفع طاولة أحزاب المعارضة الستة برئيس بلدية إسطنبول الذي يحظى بشعبية واسعة لخوض الانتخابات المقبلة، خاصة أن ثمة تحفظات على ترشح كليجدار أوغلو رئيس الحزب الجمهوري. كما أن الحكم يبدو كاشفاً عن محاولات محاصرة تحركات إمام أوغلو الذي تمكن من تحقيق اختراق واسع في الأزمات التي كانت تعانيها بلدية إسطنبول. وهنا، يمكن فهم محاولات سابقة تبناها الرئيس التركي في مطلع العام الجاري لإقصاء إمام أوغلو من رئاسة البلدية، عندما تم اتهامه بفصل 15 ألفاً من العاملين بالبلدية بدعوى انتمائهم إلى الحزب الحاكم، وتعيين 45 ألفاً من العناصر الإرهابية المحسوبة على حزب العمال الكردستاني وحركة “الخدمة”.
أهداف ملحة
يبدو أن الحكم الأخير على رئيس بلدية إسطنبول لم يكن يهدف بالأساس إلى سجنه، بقدر ما هو مناورة تستهدف تحقيق جملة من الأهداف لمصلحة الرئيس التركي، وحزب العدالة والتنمية الحاكم، وهو ما يمكن بيانه كالتالي:
1- إقصاء إمام أوغلو من المشهد الانتخابي المقبل: منذ فوزه برئاسة بلدية إسطنبول في عام 2019 التي تمثل المحافظة الأهم في البلاد، يُطرح اسم إمام أوغلو كمرشح محتمل لمنافسة الرئيس أردوغان في الانتخابات المقرر لها منتصف عام 2023. وبرغم إعلان أوغلو في نوفمبر الماضي دعمه لترشح رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار في الاستحقاق الانتخابي المقبل، إلا أن ذلك لم يمنع مخاوف الحزب الحاكم في البلاد، خاصة أن الباب لم يغلق أمام ترشيحه المحتمل، في ظل رفض قطاع من الأحزاب الستة المعارضة ترشح كليجدار أوغلو، واستمرار دعمها لرئيس بلدية إسطنبول.
وتتصاعد فرص أوغلو في المشهد الانتخابي المقبل، بعد أدائه الذي كان محل تقدير قطاعات واسعة من القواعد الانتخابية في بلدية إسطنبول، بالإضافة إلى قدرته على مواجهة تحرشات الحكومة التركية به، وتصاعد حضوره في أوساط المجتمع التركي بسبب كاريزمته، وخطاباته السياسية الجذابة، وكلها عوامل أدت إلى استمرار طرح اسمه كمرشح محتمل للانتخابات الرئاسية، سواء داخل أطر حزب الشعب الجمهوري الذي ينتمي إليه، أو كمرشح توافقي لتكتل المعارضة. وهنا، يمكن فهم حرص الجهة القضائية التي أصدرت حكمها الأخير على إمام أوغلو بتطبيق نص المادة (35) من قانون العقوبات، الذي يفرض حظراً على النشاط السياسي لرئيس بلدية إسطنبول، بعد إدانته بالسجن مدة تتجاوز العامين.
2- تشويه الصورة الذهنية لبعض رموز المعارضة: يمثل أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول، وأحد أبرز وجوه المعارضة في البلاد، تهديداً كبيراً للحضور السياسي للرئيس رجب طيب أردوغان، إذ نجح إمام أوغلو في زيادة شعبيته بشكل لافت مقابل تراجع الرصيد التقليدي للرئيس رجب طيب أردوغان. كما نجح أوغلو خلال الفترة الماضية في تعزيز تواصله مع أطياف سياسية وشعبية واسعة في الداخل التركي، فضلاً عن اختراقه مكونات المجتمع الغربي، وتجلى ذلك في لقاءاته مع سفراء الدول الأوروبية لدى تركيا، وهو ما وفر بيئة خصبة لترسيخ حضوره في أوساط المؤسسات الرسمية الأوروبية، في وقت وصلت فيه القضايا الخلافية بين أردوغان ودول الاتحاد الأوروبي إلى الذروة.
في هذا السياق، فإن الحكم الأخير بسجن إمام أوغلو، ومنعه من ممارسة نشاطه السياسي، يستهدف بالأساس تشويه صورته الذهنية في الوعي الجمعي التركي، من خلال إظهاره كشخص متطاول ومتجاوز للقواعد الأخلاقية، إضافة إلى أن عزله يؤدي إلى تحييد المنافس الأكثر شعبية لأردوغان قبل العملية الانتخابية المقرر لها منتصف العام المقبل.
3- محاصرة تحركات قوى المعارضة التركية: حظيت المعارضة التركية بحضور لافت في الشارع التركي خلال الفترة الحالية، وقد أشارت نتائج استطلاع أجرته شركة “متروبول” ونشرت نتائجه في 4 ديسمبر الجاري إلى تقدم تحالف طاولة الأحزاب الستة في مواجهة تحالف “الشعب” المكون من حزب العدالة والتنمية الحاكم وحزب الحركة القومية، حيث حصل الأخير على 32 في المائة مقابل 36 في المائة لأحزاب المعارضة. كما نجحت المعارضة التركية في سحب البساط من تحت أقدام أردوغان، عندما قدم حزب الشعب الجمهوري العلماني مشروع قانون ينص على عدم المساس بحرية ارتداء الحجاب.
في هذا السياق، فإن التوجه نحو مقاضاة رئيس بلدية إسطنبول، وحظره من العمل السياسي، يأتي في سياق محاصرة تحركات المعارضة التركية، ووقف تمدد رموزها في الشارع التركي، وفي الصدارة منهم إمام أوغلو الذي يحظى بشعبية هائلة في أوساط الهياكل الرسمية لأحزاب المعارضة، فضلاً عن تحوله إلى أيقونة سياسية لدى قطاعات انتخابية معتبرة في البلاد.
كما يسعى الحزب الحاكم في تركيا من خلال تقييد تحركات إمام أوغلو إلى قطع الطريق على خوضه الاستحقاق الانتخابي القادم، فضلاً عن توسيع الشقاق بين مكونات المعارضة السياسية، وتفتيت جهودها. ويشار إلى أن الحزب الحاكم في تركيا يراهن على تشرذم خصومه، بعد الإعلان مطلع ديسمبر الجاري عن تبلور تحالف جديد من أحزاب المعارضة، يُعد الرابع على الساحة السياسية في تركيا، ويضم أحزاب “البلد” برئاسة السياسي المنشق عن حزب “الشعب الجمهوري” محرم إينجه، و”النصر اليميني”، و”العدالة”، و”اليمين”.
4- صرف الانتباه عن تراجع الأوضاع المعيشية: لا ينفصل الحكم الأخير على رئيس بلدية إسطنبول بالسجن عن مساعي حزب العدالة والتنمية إلى توظيف هذه القضية لصرف الانتباه عن التراجع الحادث في الأوضاع المعيشية التركية، والتي زادت وطأتها بفعل فشل التدابير الاقتصادية غير التقليدية التي تبنتها الحكومة، وفي الصدارة منها خفض معدلات الفائدة المرتفعة باعتبارها تؤدي إلى التضخم من وجهة نظر الرئيس أردوغان لا العكس، في تحدٍّ للنظريات الاقتصادية التقليدية.
كما زادت حدة التراجع الحادث في مستويات المعيشة بفعل الارتدادات السلبية التي أفرزها سوء إدارة أزمة كورونا، وكذلك تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية.ويشار إلى أن الاقتصاد التركي شهد تراجعاً لافتاً، كشف عنه تجاوز معدلات التضخم إلى أكثر من 85 في المائة، وخسارة الليرة أكثر من ثلث قيمتها أمام الدولار. كما أكد مكتب الإحصاءات التركية ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكيةبنسبة 83,45 في المائة في سبتمبر 2022 مقارنة بالفترة نفسها من عام 2021. وبحسب دراسة صادرة عن معهد ENAG التركي للأبحاث، زاد المعدل السنوي لارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية 185,34 في المائة في أكتوبر 2022، وهذا الرقم هو الأعلى خلال العقدين الماضيين.
نتائج عكسية
ختاماً، يمكن القول إن الحكم الأخير بسجن إمام أوغلو وحرمانه من ممارسة العمل السياسي يشير إلى أن ثمة جهوداً مكثفة علنية أو من وراء ستار لإقصائه عن خوض العملية الانتخابية المقرر لها منتصف العام المقبل. غير أن هذه الممارسات التي تستهدف تضييق الخناق على تحركات إمام أوغلو قد تسفر عن نتائج عكسية، أهمها زيادة شعبيته، خاصة أن قطاعات شعبية في تركيا ترى أن إمام أوغلو يتعرض لاضطهاد من السلطة الحاكمة بسبب صعوده السياسي. كما يتوقع أن يؤدي قرار تجميد نشاط أوغلو السياسي إلى تعقيد المشهد السياسي، واندلاع مزيد من الاحتجاجات، خاصة أن رئيس بلدية إسطنبول الذي اعتَبر الحكم عليه سياسياً حظي بتضامن واسع من أنصار المعارضة التركية على اختلاف اتجاهاتها.