واقع مأزوم:
دلالات الظهور الأخير لزعيم تنظيم قاعدة اليمن

واقع مأزوم:

دلالات الظهور الأخير لزعيم تنظيم قاعدة اليمن



يكشف الجزء الأول من لقاء زعيم تنظيم القاعدة في اليمن، خالد باطرفي، الذي بثته مؤسسة الملاحم (الذراع الإعلامية للتنظيم) قبل أيام قليلة، عن واقع مأزوم يعيشه فرع “القاعدة” خلال الفترة الحالية، الذي كان ينظر إليه باعتباره أقوى وأنشط الفروع، قبل التراجع أمام العمليات العسكرية للتحالف العربي لمواجهة الحوثيين في 2015. وقد جاء الحوار في 59 دقيقة و34 ثانية، وهي مدة طويلة مقارنة بالشرائط المصورة التي ظهر فيها باطرفي سابقاً، وكان أبرزها الشريط المصور في فبراير الماضي ومدته نحو 20 دقيقة، الذي جاء في سياق الرد على ما ورد في تقرير للأمم المتحدة بشأن اعتقاله في محافظة المهرة أكتوبر 2020، وتطرق إلى بعض القضايا الإقليمية، قبل التطرق إلى الوضع الداخلي في اليمن، بالشكل الذي يمكن معه استخلاص بعض الدلالات المهمة.

تراجع ملحوظ

يعيش تنظيم القاعدة في اليمن تراجعاً ملحوظاً، وتحديداً خلال السنوات الثلاث الماضية، بعدما شهد صعوداً دراماتيكياً، بدأ عقب اندلاع الاحتجاجات ضد الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح في عام 2011؛ إذ استغل التنظيم الأوضاع المضطربة في التمدد والسيطرة على مناطق في جنوب البلاد، وسيطر على مناطق في أبين وشبوة. وقد وجد التنظيم في انقلاب الحوثيين عام 2014 فرصة جديدة لتصعيد التمرد المسلح، والسيطرة على مناطق جديدة في جنوب ووسط البلاد، وبات له تواجد كبير في مأرب والبيضاء وحضرموت والمهرة، بداية من 2015 وتصاعدت عملياته خلال عامي 2016 و2017 للحفاظ على المناطق الخاضعة لسيطرته، لتبدأ مرحلة تراجع تدريجي، وصلت إلى التواجد في بقاع جغرافية صغيرة في أبين وشبوة والبيضاء.

عوامل التراجع

ويُمكن تحديد أبرز عوامل تراجع نفوذ وسيطرة التنظيم في اليمن، كالتالي:

1- انشقاق عناصر لصالح فرع تنظيم “داعش”: انشقت عناصر من القاعدة في اليمن لتنضم لفرع “داعش” في أواخر 2014 وبدايات 2015، وهو ما أربك الحسابات الداخلية، ولكن لم يتوقف التنظيم عن التقدم ميدانياً، إلى أن بدأت مواجهات بين التنظيمين للسيطرة على بعض المناطق وسط اليمن، وتحديداً في البيضاء، ودارت معارك بينهما خلال عام 2018، قُتل على إثرها عناصر من التنظيم، بما ضاعف الأزمة.

2- استمرار الضربات الأمريكية لاستهداف قيادات التنظيم: لجأت الولايات المتحدة إلى الضربات الجوية لاستهداف قيادات التنظيم وتحديداً الصف الأول، وخلال عام 2015 تمكنت من قتل ناصر الوحيشي زعيم التنظيم آنذاك، وتبعه إبراهيم الربيش، وإبراهيم العسيري. وفي عام 2020، تمكّنت من قتل قاسم الريمي الذي خلف الوحيشي. وبلغت الضربات ذروتها خلال عام 2017 بواقع 131 ضربة جوية، وبخلاف استهداف قيادات الصف الأول، فإن الضربات ركزت أيضاً على قيادات الصف الثاني من القادة العسكريين، وبعد يومين تقريباً من لقاء باطرفي، استهدفت ضربة جوية يُعتقد أنها أمريكية قيادات بقاعدة اليمن.

3- تعقيدات المشهد اليمني: يتسم المشهد اليمني ميدانياً بالتعقيد في ظل وجود أطراف متعددة. فمن جانب يوجد الجيش اليمني المعروف بـ”قوات الشرعية”، مع دعم من التحالف العربي لدعم الشرعية، إضافة إلى الحوثيين في الشمال، وهناك أيضاً المجلس الانتقالي الجنوبي وقوات الحزام الأمني، وجميعهم أطراف دخلت في مواجهات مع تنظيم القاعدة، في ظل رغبة السعودية والإمارات في التخلص من التنظيم خلال الحرب لاستعادة الشرعية، وطردت قوات الشرعية والتحالف العربي التنظيم من مناطق سيطرته في حضرموت وتحديداً المكلا عام 2016، وبالمثل كانت هناك مواجهات مع الحوثيين على عدة نقاط في شبوة وأبين والبيضاء، استمر بعضها حتى هذا العام.

4- تراجع دعم القبائل: يمكن اعتبار دعم بعض القبائل في جنوب اليمن جزءاً من معادلة بقاء التنظيم، خاصة وأن التنظيم تأسس باندماج فرعي القاعدة في اليمن والسعودية بجنوب اليمن على يد ناصر الوحيشي في 2009، وانضم إليه قيادات وشباب من قبائل الجنوب، وكان هذا نقطة تحول في نهج القاعدة من الاهتمام بالأهداف الخارجية واستهداف المصالحة الأمريكية مثل استهداف المدمرة الأمريكية كول في 2000 التي كانت ترسو في ميناء عدن، إلى الاهتمام بالقضايا المحلية، وبالتالي فإن الحديث عن تراجع الدعم القبلي في أكثر من محافظة يمثل ضربة للتنظيم، إذ نشرت تقارير غربية من بينها وكالة “أسوشيتد برس” الأمريكية عام 2018، أن التحالف العربي أقنع قبائل يمنية بالتخلي عن دعم القاعدة، خلال المواجهات لدعم الشرعية في اليمن.

دلالات مهمة

يحاول تنظيم “القاعدة” في اليمن استعادة جزء من توازنه ونفوذه المفقود بفعل العوامل السالف الإشارة إليها، ويمكن استخلاص بعض الدلالات من لقاء باطرفي الأخير، كالتالي:

1- تأكيد شرعية “باطرفي”: يمكن النظر إلى اللقاء باعتباره دعائياً لشخصه، وتأكيداً لشرعيته، وحسماً للقضايا الخلافية الداخلية أو على الأقل وجود نوع من التهدئة، بعد الأزمة التي صاحبت توليه القيادة عقب مقتل قاسم الريمي في 2020، وتتعلق بالاتهامات التي طالت بعض القيادات وعلى رأسهم أبو عمر النهدي، بتسريب بعض المعلومات عن التنظيم أدت لمقتل الريمي، بما فاقم الأزمة إلى درجة وصلت للتخوين المتبادل، واتجاه اللجنة الأمنية في التنظيم إلى قتل عدد من العناصر بتهم تتعلق بتسريب معلومات في بعض الوقائع يعود بعضها لاستهداف ناصر الوحيشي في عام 2015. ويدعم المحاولة الدعائية لزعيم التنظيم أن الظهور الأخير جاء في صورة حوار مدته تقارب ساعة كاملة في الجزء الأول منه فقط، بانتظار بث الجزء الثاني، خلافاً لما تبثه التنظيمات الإرهابية للقيادات من إصدارات مرئية، على الأغلب تكون في صورة أقرب لخطاب أو كلمة، كما أن اللقاء يعد الثاني لباطرفي هذا العام بعد كلمة له في فبراير الماضي، في إطار الرد على عدم اعتقاله.

2- استمالة القبائل إلى صفّ التنظيم: يسعى باطرفي في اللقاء المرئي إلى محاولة استمالة القبائل إلى صف التنظيم مرة أخرى، كما كان الوضع عليه قبل العملية العسكرية للتحالف العربي، وبدا هذا واضحاً في حديث زعيم قاعدة اليمن، إذ تعمد ذكر “قبائل اليمن الأبية” مرات عديدة، فضلاً عن الإشارة إلى قتال التنظيم بجانب قبائل الجنوب ضد الحوثيين في 11 جبهة. وبدا أن باطرفي يسعى إلى الحفاظ على ما تبقى من علاقات مع بعض القبائل، وعدم الرغبة في الصدام بما يزيد من صعوبة وضع التنظيم، حينما ألمح إلى التغاضي عن الرد على قتال بعض أبناء القبائل ضد “القاعدة” في اليمن على جبهة مأرب، وذكر أن التنظيم تعرض لضربة من الخلف من بعض الأطراف، ورغم القدرة على “تأديبهم” إلا أن ذلك سيؤدي إلى مفاسد أكبر، وربما هي رسالة للقبائل باحتواء الموقف لعدم تكراره.

3- التمايز عن قيادة قاعدة الجهاد: يرسم اللقاء خطاً فاصلاً بين موقف التنظيم في اليمن، ومواقف قيادة قاعدة الجهاد في خراسان، حيال الموقف من إيران؛ إذ شنّ باطرفي هجوماً على إيران وأذرعها في المنطقة العربية، وبالأخص الحوثيين في اليمن، في أكثر من موضع، الأول: حينما تطرق إلى موقفه الرافض من تحية بعض الفصائل الفلسطينية لإيران وقادتها لدعمها لهم، والثاني: عند الحديث عن الوضع الداخلي في اليمن ودعم إيران للحوثيين من أجل تنفيذ أجندتها في المنطقة وتمكين الأقلية الشيعية، والثالث: حديثه عن دعم أمريكا للمشروع الشيعي في اليمن من خلال دعم الحوثيين ضد القاعدة وأهل السنة. ويبدو أن باطرفي يحاول دفع العلاقة بين قيادة التنظيم المركزية وإيران، بعيداً عن فرع “القاعدة” في اليمن، لعدم التأثير على علاقاته بالأطراف المحلية، خاصة وأن جانباً من العلاقات الشائكة والملتبسة كشفها وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو في يناير الماضي، حينما أكد أن إيران مقر لتنظيم القاعدة، والأخير يعمل تحت غطاء النظام الإيراني.

4- الحفاظ على الحاضنة الشعبية كقاعدة للتجنيد: حمل اللقاء عدداً من الرسائل إلى اليمنيين بدافع الحفاظ على حاضنته الشعبية التقليدية في وسط وجنوب اليمن، والتي تمثل القاعدة الأساسية للتجنيد في ظل تراجع أعداد عناصره، من خلال، أولاً: نفي الاتهامات الموجهة إلى التنظيم بشأن التعاون مع الحوثيين في أكثر من جبهة، وتحديداً في مأرب والبيضاء، بما أتاح الفرصة لهم بالتقدم باتّجاه الجنوب، ثانياً: الهجوم على التحالف العربي من خلال تشويه صورته، لناحية إثارة ملف التطبيع مع إسرائيل باعتبارها قضية مرفوضة لدى اليمنيين، فضلاً عن الحديث عن رغبته في زرع الفساد في اليمن وسلخ المسلمين عن هويتهم الإسلامية، والزعم بوجود انتهاكات للتحالف ودعم بعض الجهات، بما لا يشكل مصلحة للمسلمين. ويسعى باطرفي لتوظيف الخطاب الديني في تعبئة اليمنيين ضد التحالف العربي واستمالتهم لصالحه.

5- رفع معنويات عناصر التنظيم: يدفع اللقاء إلى محاولة احتواء عناصر التنظيم ورفع المعنويات عقب التراجع الكبير ميدانياً، والخلافات الداخلية، والضربات الجوية المتلاحقة، بما يمثل أزمة من ناحية ضعف التماسك الداخلي ويفتح باب الانشقاق، وهنا لعب باطرفي على ثلاث جزئيات: أولاً: الإشارة إلى نموذج طالبان وكيف أنها وصلت إلى “التمكين” أو الحكم عقب عقدين من “الجهاد”، وهو ما يمكن تكراره في اليمن. ثانياً: تراجع مشروع الإسلام السياسي عبر الهجوم على التيارات الإسلاموية التي لجأت إلى طريق الديمقراطية والانتخابات وماذا كانت النتيجة؟، بما يشير إلى فشل المسار السلمي. وثالثاً: الحديث عن مشروع القاعدة وأن عناصرها أصحاب عقيدة سليمة في مواجهة أعداء الإسلام الذين يحاربون التنظيم.

6- تبلور ملامح مرحلة جديدة: تطرق زعيم “القاعدة” في اليمن إلى ما يُشبه مرحلة جديدة للتنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر الإشارة إلى انتهاج تكتيك “حرب العصابات” على الساحة اليمنية، وكان حديثه في سياق المواجهات مع الحوثيين، بما يعكس تراجع إمكانية التمركز على بعض الجبهات، ربما لإعطاء فرصة لإعادة ترتيب أوراق التنظيم مرة أخرى، بانتظار فرصة مناسبة لإعادة التوسع ميدانياً، في ظل الوضع الميداني المعقد. ويتوافق هذا مع إشارة تقارير صحفية يمنية إلى أن التنظيم يتخذ بعض مناطق التوتر موقعاً لإعادة تجميع صفوفه والتجنيد وتدريب عناصر جديدة في محافظة شبوة، أو تشكيل خلايا إرهابية في حضرموت.

خطورة محتملة

وختاماً، تشي الخبرة التاريخية مع تنظيم القاعدة في اليمن، بقدرته على التكيف مع الأوضاع المختلفة المحيطة به. فعلى الرغم من تلقيه ضربات كبيرة متلاحقة، لكن لا يمكن الجزم بعدم قدرته على العودة للساحة اليمنية مجدداً، مع الأخذ في الاعتبار إمكانية استمالة أبناء القبائل للانضمام إليه، والحصول على دعم خارجي من قيادة التنظيم المركزية في خراسان، التي تشير تقديرات غربية إلى إمكانية تمتعها بحرية في الحركة عقب وصول حركة طالبان للحكم في أفغانستان.