رسائل متنوعة:
دلالات التصريحات الأخيرة لنائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي بالسودان

رسائل متنوعة:

دلالات التصريحات الأخيرة لنائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي بالسودان



في ظل تعثّر الجهود الخاصة بحل الأزمة السياسية الممتدة منذ 25 أكتوبر الماضي في السودان، أطلق الفريق أول ركن “محمد حمدان دقلو” نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقائد قوات الدعم السريع في السودان، تصريحات هامة في 22 يوليو 2022، أشار فيها إلى أهمية حل الأزمة السياسية الراهنة عبر توافق القوى السياسية المدنية وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، والإشارة إلى أن القوات النظامية قررت ترك أمر الحكم للمدنيين، والتفرغ لأداء مهامها الوطنية المنصوص عليها في الدستور والقانون.

سياق مضطرب

قام الجنرال “حميدتي” بتوجيه بعض الرسائل السياسية والأمنية إلى الداخل السوداني، وأيضاً إلى الفاعلين الدوليين المنخرطين في الأزمة السياسية الراهنة، وذلك على النحو التالي:

1- استكمالاً لقرارات البرهان، جاءت تصريحات الفريق “حميدتي” في هذا التوقيت استكمالاً للقرارات التي أعلن عنها الفريق أول ركن “عبدالفتاح البرهان” رئيس مجلس السيادة الانتقالي، في مطلع شهر يوليو الجاري، والتي تعهد فيها بإفساح المجال أمام القوى السياسية المدنية للتوصل إلى توافق شامل أو تشكيل حكومة كفاءات وطنية في البلاد، وانسحاب الجيش من المفاوضات السياسية التي تُشرف عليها الآلية الثلاثية (الاتحاد الأفريقي، الإيجاد، بعثة الأمم المتحدة لدى السودان “يونيتامس”) وإعفاء المدنيين الخمسة من عضوية مجلس السيادة الانتقالي، والإعلان عن تشكيل مجلس عسكري يتولى شؤون الدفاع والأمن، وقد أثارت هذه القرارات غضب القوى السياسية المدنية التي وصفت هذه القرارات بأنها تدمير للعملية السياسية في البلاد.

2- احتجاجات شعبية متواصلة، تشهد العاصمة الخرطوم وعدد من الولايات السودانية تنظيماً متواصلاً للمسيرات والمظاهرات والاحتجاجات الشعبية التي ينظمها تحالف قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة وتجمع المهنيين السودانيين، للمطالبة بإنهاء الانقلاب العسكري على السلطة وتسليم السلطة للمدنيين، والتهديد بإمكانية تحوّل هذه الاحتجاجات إلى عصيان مدني شامل إلى حين الاستجابة لمطالبهم المشار إليها.

3- تعثّر جهود الآلية الثلاثية، لم تستطع الآلية الثلاثية (بعثة يونيتامس الأممية – الاتحاد الأفريقي – الإيجاد) حتى الآن عقد جلسات الحوار الوطني بصيغة جديدة يمكن من خلالها إجراء الحوار بين المكونين العسكري والمدني، والتوصل إلى حلول توافقية يمكن من خلالها إخراج البلاد من أزمتها السياسية الراهنة.

4- تصاعد الاشتباكات القبلية المسلحة، وذلك في عدد من الولايات السودانية، بدءاً بولاية النيل الأزرق جنوب شرق البلاد، وانعكاس ذلك على عدم الاستقرار السياسي بصفة عامة في البلاد، وامتداد آثار هذه الاشتباكات إلى ولايات أخرى مثل كسلا والخرطوم، وسط تحذيرات متصاعدة من احتمال تحول هذه الصراعات إلى حرب أهلية واسعة، وخاصة مع وصول أعداد القتلى إلى حوالي 109 أشخاص وإصابة 290، ونزوح أكثر من 140 ألف شخص داخل الولاية، وهو ما انعكس في تصريحات “حميدتي” بالإشارة إلى أن هذه الصراعات القبلية ستقود البلاد نحو الانهيار.

مواقف متباينة

أثارت هذه التصريحات مواقف متباينة لدى بعض القوى السياسية داخل المجتمع السوداني، والتي تفاعلت مع هذه التصريحات، وذلك على النحو التالي:

1- اختراق حالة الجمود السياسي، حيث سارعت الجبهة الثورية إلى التعبير عن تأييدها لما تضمنته تصريحات الفريق “حميدتي” من دعوات لحل الأزمة السياسية الراهنة، واعتبرتها بمثابة اختراق لحالة الجمود الراهنة التي أصبحت تتسم بها الحياة السياسية السودانية في الوقت الراهن. وأكدت الجبهة العمل مع كافة مكونات المجتمع السوداني لإنتاج مقاربة سياسية شاملة تحقق الاستقرار السياسي المنشود للبلاد. ومن الملاحظ أن موقف الجبهة الثورية من تصريحات “حميدتي” يمثل تحولاً نوعياً في موقفها تجاه الأزمة الراهنة، وخاصة فيما يتعلق بالمشاركة في الحوار الوطني، خاصة وأنها قد اعترضت من قبل على انسحاب الجيش من المفاوضات السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة، مبررة ذلك بأنه لا يمكن حل هذه الأزمة دون التفاوض والحوار مع المكون العسكري.

2- جدية المؤسسة العسكرية في تسليم السلطة للمدنيين، عبرت حركة العدل والمساواة، وهي إحدى الحركات المنضوية تحت لواء الجبهة الثورية الموقعة على اتفاق جوبا النهائي للسلام، عن ترحيبها وتأييدها لما تناولته تصريحات الجنرال “حميدتي”، والتي رأتها متماشية مع تصريحات الفريق “البرهان” وتعبر عن جدية المؤسسة العسكرية في استكمال الانتقال الديمقراطي، والعمل على تحقيق التوافق الوطني من خلال اقتراح حركة العدل والمساواة التشاور مع القوى السياسية الوطنية بغرض الاتفاق على مرجعية دستورية وهياكل ومهام الحكومة والانتخابات، وستقدم دعوة لعقد مؤتمر للانتقال وترشيح رئيس وزراء.

3- تشكيل لجان اتصال تشاورية مع القوى السياسية، كما أيدت قوى الحرية والتغيير (مجموعة التوافق الوطني) تشكيل لجان اتصال للتشاور مع كافة القوى السياسية دون إقصاء بغرض تطوير رؤية سياسية متكاملة تشمل موضوعات تشكيل الحكومة ومهامها، واختيار رئيس الوزراء وبرنامج الحكومة الانتقالية وصولاً إلى انتخابات بنهاية الفترة الانتقالية.

4- التفاف على مطالب الثورة السودانية، في المقابل، ترى القوى السياسية المدنية المعارِضة لبقاء الجيش على رأس السلطة الانتقالية، خاصة تجمع المهنيين السودانيين، أن تصريحات “حميدتي” تعد التفافاً على مطالب الشارع السوداني الثائر، لا سيما المتعلقة بإنهاء الانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية منذ 25 أكتوبر الماضي، وأن الحديث عن تفرغ القوات النظامية لأداء مهامها جاء بناء على ما قرره الشارع السوداني خلال الاحتجاجات برجوع الجيش إلى ثكناته. وذكرت المعارضة أيضاً أن “حميدتي” كان مجبراً على إطلاق هذه التصريحات لتوضيح عدم وجود خلافات بينه وبين الفريق “البرهان”. ووصف تجمع المهنيين هذه التصريحات بأنها بمثابة “نعي” للقرارات التي أطلقها “البرهان” من قبل، خاصة وأن قادة الجيش لم يلتزموا بتنفيذ الوعود التي أطلقوها من قبل بشأن بناء إجراءات الثقة مع المكون المدني، وهو ما يجعلها التفافاً على مطالب الثورة وليست خطوة للأمام.

دلالات سياسية

حملت التصريحات الأخيرة التي أطلقها الجنرال “حميدتي”، مجموعة من الدلالات السياسية الهامة، ومن أبرزها ما يلي:

1- العودة للمشهد السياسي المضطرب، مثّلت تصريحات الفريق “محمد حمدان دقلو” التي أطلقها في هذا التوقيت، عودة له مرة أخرى إلى تفاعلات المشهد السياسي المعقد والمضطرب في البلاد، وذلك بعد بقائه عدة أسابيع في إقليم دارفور بعيداً عن العاصمة الخرطوم وما يحدث فيها من تظاهرات واحتجاجات شعبية مطالبة بإنهاء الانقلاب السياسي للجيش على السلطة الانتقالية. كما تتماشى تصريحات “حميدتي” مع الحديث عن رغبته في الظهور بمظهر “رجل دولة” عبر إظهار الحرص على وحدة البلاد واستقرارها، وهو ما ظهر في تصريحاته بالتأكيد على دور الدولة في تنفيذ اتفاق جوبا النهائي للسلام لتحقيق الاستقرار السياسي والأمني في الداخل، هذا إلى جانب عدم وجود مطامع في السلطة، وذلك من خلال تكرار التأكيد على أن الجيش قد انسحب من المفاوضات السياسية برعاية أممية، وترك المجال أمام القوى السياسية المدنية لحل الأزمة الراهنة.

2- احتواء وتهدئة الاحتجاجات الشعبية، تشير التصريحات -في مجملها- إلى محاولة احتواء القوى الثورية وتهدئتها والتي تطالب بإنهاء الانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية وعودة الجيش إلى ثكناته، وهو ما ركزت عليه تصريحات “حميدتي” بالإشارة إلى أن الجيش سوف يركز خلال الفترة القادمة على حماية الأمن القومي للبلاد، وترك الساحة السياسية للمدنيين، كما ركزت التصريحات على إشكالية إصلاح المؤسسات المدنية والعسكرية، وهو أحد مطالب الثورة التي أسقطت نظام الإنقاذ السابق. ومن ثم، يحاول الظهور بموقف المستجيب لمطالب تحالف قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة وتجمع المهنيين السودانيين في هذا الخصوص.

3- تعزيز وحدة المؤسسة العسكرية، تعبر تصريحات الجنرال “حميدتي” عن وحدة الصف داخل المؤسسة العسكرية، وخاصة فيما يتعلق بعملية صنع واتخاذ القرارات المتعلقة بإدارة البلاد خلال مرحلة ما بعد 25 أكتوبر، وهو ما انعكس في تأكيد “حميدتي” على أن القرارات التي أعلنها الفريق “عبدالفتاح البرهان” في 4 يوليو الجاري، تمت بالتشاور معه قبل الإعلان عنها، وبالتالي الرد على بعض الجهات الداخلية التي وصفت هذه القرارات بأنها دليل على الانقسام بين الفريقين “البرهان” و”حميدتي” وذلك استناداً إلى إصدار الفريق “البرهان” لها في الوقت الذي كان فيه الفريق “حميدتي” في إقليم دارفور، والترويج لفكرة أن “البرهان” استغل غياب “الأخير عن العاصمة الخرطوم لاتخاذ هذه القرارات، والإعلان عنها للتأكيد على تفرده بعملية صنع القرار داخل المؤسسة العسكرية؛ إلا أن تصريحات “حميدتي” مثّلت رسالة لنفي هذه الشائعات. ورغم التماشي في تصريحات “حميدتي” مع قرارات “البرهان”، فإن هناك بعض الاختلافات، إذ ركزت تصريحات “حميدتي” على تنفيذ اتفاق جوبا للسلام، وإصلاح المؤسسات الأمنية والعسكرية، وهو ما لم يتناوله الفريق “البرهان”، ويعد ذلك مؤشراً على وجود قدر من التباين والتنافس السياسي بينهما، ومحاولة “حميدتي” التفوق السياسي على “البرهان”.

4- انقسام القوى المدنية، يُشير مضمون تصريحات الجنرال “حميدتي” إلى إشكالية غياب التوافق بين القوى السياسية المدنية، وهو ما يتماشى مع تصريحات الفريق “عبدالفتاح البرهان” التي أشار فيها أيضاً إلى الإشكالية نفسها، وبالتالي فإن تصريحاته تشدد على أن انقسام واختلاف القوى السياسية فيما بينها هو السبب الرئيسي وراء استمرار الأزمة السياسية الراهنة في البلاد، وأن ما يمنع المؤسسة العسكرية من تسليم السلطة للقوى المدنية هو عدم قدرتهم على التوصل إلى توافق سياسي شامل يمنحهم القدرة على تشكيل حكومة كفاءات وطنية لإدارة شؤون البلاد، وهو بذلك ينفي الاتهامات الموجهة للمكون العسكري كونه طرفاً رئيسياً في الأزمة السياسية الحالية، وأن ما حدث في 25 أكتوبر الماضي كان تصحيحاً لمسار التحول الديمقراطي وليس انقلاباً على السلطة كما تروج له القوى السياسية المعارضة لذلك.

5- الاستجابة للضغوط الدولية، عكست تصريحات “حميدتي” أيضاً استجابته للضغوط الدولية وخاصة الأمريكية بشأن تسليم قادة الجيش السوداني السلطة للقوى السياسية المدنية، والتهديد بإمكانية فرض عقوبات على من يثبت تورطه في عرقلة عملية التحول الديمقراطي في السودان، وكذلك دعوة دول الترويكا (الولايات المتحدة الأمريكية، النرويج، بريطانيا) إلى جانب الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي الجيشَ السوداني لحل الأزمة المتفاقمة في البلاد منذ أكتوبر الماضي. وبالتالي جاءت تصريحات “حميدتي” في هذا التوقيت كمحاولة لتخفيف حدة هذه الضغوط الخارجية المتزايدة، وإثبات حسن نوايا الجيش تجاه تسليم السلطة للمدنيين، والتأكيد على تفرغ القوات النظامية لأداء مهامها.

تجاذبات سياسية

خلاصة القول، تكشف التصريحات الأخيرة للجنرال “حميدتي” عن تماشيها مع قرارات الفريق “البرهان” التي تهدف دون شكّ إلى إيصال رسالة للمجتمع السوداني في الداخل والمجتمع الدولي في الخارج بأن التباينات بين القوى السياسية المدنية هي السبب في استمرار الأزمة السياسية دون حل حتى الآن، وهو ما يعكس المناورات التكتيكية التي تواصل المؤسسة العسكرية السودانية القيام بها لتجنب الضغوط الداخلية والخارجية المتزايدة ضدها.

وترجّح المعطيات الراهنة أن تشهد الفترة القادمة حالة من التجاذبات بين مجموعة التوافق الوطني المؤيدة للمكون العسكري والتي ستسعى لتوظيف تصريحات “حميدتي” لتشكيل حكومة جديدة؛ إلا أن ذلك سيواجهه موقف تحالف قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة وتجمع المهنيين السودانيين الرافضين لمناورات المؤسسة العسكرية.