خواطر عن “لم الشمل” – الحائط العربي
خواطر عن “لم الشمل”

خواطر عن “لم الشمل”



كان اختيار عبارة (لم الشمل) عنواناً للقمة العربية التي انعقدت في الجزائر الأسبوع الماضي تعبيراً عن خيال جامح وطموح مبالغ في القدرة على تحقيقه، وعدم إدراك للواقع المعاش الذي يحيط بحياة الملايين من العرب في دول تطحنها الحروب الأهلية، وتعيش بغير سيادة وطنية حقيقية، وكثير من قادتها جاؤوا إما بانقلابات عسكرية، أو بإملاءات خارجية، أو رمتهم الأحداث التي لم يشاركوا في صنعها إلى قمة هرم السلطة بمعناه المجازي.

في البدء يجب الاعتراف أن الفشل كان حليفاً مستداماً وملازماً للجامعة العربية طيلة تاريخها منذ تأسيسها عام 1945 فعجزت عن حل أي مشكلة عربية، ولم تنجز أي فعل إيجابي تجاه كل الأزمات التي مرّت في العالم العربي، ويكفي الإشارة إلى أعداد ممثلي الأمم المتحدة ومبعوثي الولايات المتحدة والغرب، وجميعهم وجدوا في الصراعات الداخلية والبينية مساحة يتحركون فيها، ويرسمون مخططاتهم البعيدة عن المصالح الوطنية، بينما اختفت “الجامعة” خلف أبواب مكاتب فارهة ومرتبات ثابتة مجزية ونفقات عبثية.

قد يكون من الإنصاف القول إن أداء “الجامعة” مرتبط برغبة الدول الأعضاء، وما تريده منها والمساحة الممنوحة لها للتحرك لعمل جاد يسمح لها بالتدخل في نطاق الخلافات الأبدية بين الجيران. لكن من الواضح أنها استسلمت راضية لهذا الوضع مكتفية بالعوائد التي يحصل عليها أمينها العام ومساعدوه والموظفون المكدسون في مكاتبها داخل مصر وخارجها. ولهذا لم نسمع يوماً أن أحداً من كبار موظفيها قد ترك موقعه طواعية أو أبدى أسفه على عدم الإنجاز.

يقبع تحت عباءة “الجامعة” عدد من المؤسسات التابعة لها بمسميات تعلن عن مهام عظيمة يُفترض أن تقوم بها أو مكلفة إنجازها، لكن الواقع يقول إنها مجرد هياكل يتجمع فيها الكثير من الموظفين الذين لا يقومون بأي نشاط ذي مردود، ليس لأنهم غير راغبين، لكن لمجرد أن لا أحد يراقبهم ويحاسبهم أو يطالبهم بأي إنجاز. وعلى رغم الشكوى المتكررة التي يصرخ بها الأمين العام وفريقه الإعلامي عن العجز المالي، الذي تعانيه “الجامعة” الممول، إلا أنهم يتناسون أن أحد الأسباب هو ارتفاع مخصصاتهم، التي لا تتناسب مع المردود الضئيل، الذي يعود على الدول الأعضاء وعلى المواطنين.

تواجه “الجامعة” نظرة شعبية شديدة السلبية تجاه نشاطاتها وتحركات الأمين العام والأجهزة المختلفة، ولم يعد المواطن العربي ينظر إليها إلا كأداة خاضعة لسياسات الخارجية المصرية، وتلك الدول التي تسدد اشتراكاتها بانتظام. وعلى رغم المحاولات الدعائية التي تقوم بها الأمانة العامة فإن الثقة بها منعدمة بسبب عجزها الفاضح وعدم تمكنها من تحريك الركود في العلاقات البينية أو إعداد برامج عملية في مجالات التعليم والصحة والمياه يمكن الاستفادة منها داخل البلدان الأكثر فقراً وعوزاً. كما أنها وقفت عاجزة أمام الحروب الدائرة، وما كان تحركاً لا يعدو أن يكون إلا من باب إسقاط الواجب، لأنها تدرك أنها أبعد ما يكون عن اهتمام الحكام والشعوب.

وبالعودة إلى شعار (لم الشمل) فالحقيقة أنه على رغم جاذبيته اللغوية إلا أن الواقع الذي يقف أمامنا يقول إنه غير قابل للتطبيق في عالمنا العربي، لأسباب موضوعية أبسطها أن ما يجري في بعض من العواصم العربية قد خرج عن سيطرة سلطاتها وحكوماتها، وصارت قضاياها تدار وتعالج في عواصم بعيدة منها. ومن المثير للاستغراب أن الدعوة الجذابة لـ (لم الشمل) بين الدول استبعدت اللبنة الأولى التي تسبق المصالحات بينها، بل تستوجب أولاً وقبل أي شيء تسوية الأوضاع الداخلية فيها وخلق مناخات وطنية تستوعب الاختلاف وحتى التناقضات طالما ظلت في نطاق الحوار والقوانين التي تمنح الجميع القدرة على التعبير من دون اضطهاد لفئة أو مذهب أو طائفة. فهل بلغت دولنا في عالمنا العربي هذا المستوى من الرقي الحضاري قبل أن تتجاوز حدودها بالحديث عن (لم الشمل العربي).

كان الفيلسوف السعودي الراحل عبدالله القصيمي يردد (أن أطول مسافة كونية هي الفاصلة بين كلام العربي وفعله)، وأثبتت القمة العربية بنسختها الحادية والثلاثين في الجزائر صحة ما قاله القصيمي، وأن لا أحد يريد أن يفهم الدروس المستقاة من التجارب السابقة، بل الأعجب أن هناك إصراراً مثيراً للدهشة لتكرارها بنماذج مختلفة ستقود حتماً إلى نفس الهوة السحيقة التي يعيشها العالم العربي داخل حدوده ومع الآخر.

لقد خابت توقعات المواطن العربي من تكرار فشل الجامعة العربية، ومن القمم التي تدعو إليها، ولعل النظر إلى سوق العمالة في الدول التي تسيطر فيها الجنسيات غير العربية على سوق العمل، وقد تجاوزت في بعضها عدد مواطنيها. وعلى رغم أن هذه المسألة تدق ناقوس الخطر على التحولات الديموغرافية والاجتماعية الثقافية والاجتماعية والتبعات السياسية التي تمثل زعزعة محققة للأنظمة فإن الأمانة العامة تكتفي بالبيانات من دون أن تطالب وتصر على أهمية عقد قمة عربية مخصصة لهذه القضايا التي تضرب قواعد خرافة (لم الشمل). كما أنها تقف صامتة أمام ما يتعرض له المواطن العربي في التنقل بين الدول العربية والذي ما زال عقبة أمام غالبية المواطنين العرب في الوقت الذي تفتح فيه الأبواب لغيرهم من دون قيود.

يقابل المواطن العربي كل قمة بالسخرية، لأنه يفهم حقيقة وحدود ما يمكن تحقيقه فعلياً، ولا يلتفت إلى البيانات المنمقة، مدركاً أنها لن تتجاوز ضجيج وسائل الإعلام ولربما كان من الأجدى التواضع بمناقشة قضايا يمكن تنفيذها مثل احترام حقوق العربي في كل بلد عربي يعيش فيه أو يحاول أن يتحرك إليه، وتشكيل لجنة عربية للمصالحة الوطنية في البلدان التي تعاني من الحروب والويلات، والتعامل الجاد مع المحاولات الخارجية للتأثير في أوضاعها الداخلية. وعلى الحكومات العربية أن تعلن إما وفاة الجامعة العربية أو إصلاحها من دون مجاملات وتدوير الوظائف فيها بداية من الموقع الأول.

نقلا عن اندبندنت عربية