توصيف المحللين الاستراتيجيين لعام 2022، بأنه من أسوأ الأعوام التي مرّت على البشرية منذ نهاية الحرب الباردة في مطلع تسعينات القرن الماضي، لا يتضمّن أية مبالغة إنشائية، فقد عبّرت الحرب الروسية -الأوكرانية عن مأزق النظام الدولي برمّته، وهي من زاوية النظر هذه، كشفت عن حدّة المشكلات والأزمات التي تراكمت في النظام الدولي، والتي تفاقمت في السنوات القليلة الماضية، وصولاً إلى الحرب، التي لم يكن يجرؤ أحد على توقّع حدوثها في قلب أوروبا؛ إذ لطالما كانت هناك العديد من الساحات الهشّة، التي يمكن أن تتصارع فيها الأمم، من دون استهداف المحيط الجيوسياسي للدول الكبرى بالحروب والاضطرابات.
في مقدمة المخاطر الكبرى المستمرّة في العام الجديد، انزياح الحرب الروسية الأوكرانية خارج نطاقها الجغرافي، وتوسّعها إلى بلدان أخرى، أو لجوء روسيا إلى استخدام قنابل نووية تكتيكية، لإحداث صدمة كبيرة، قبل اللجوء إلى التفاوض، خصوصاً أن روسيا، لا تزال مصمّمة على عدم الخروج من الحرب قبل إحراز مكاسب، تجعلها تقبل بوقف الحرب، وكذلك أوكرانيا، ومن ورائها أمريكا والغرب، المصمّمون على إلحاق خسائر استراتيجية كبرى بالنظام الروسي برمّته، وليس فقط السياسي، ولا يزال الدعم بأشكاله كافة يتدفّق باتجاه الجيش الأوكراني، من دون أية بوادر مهمّة تشير إلى قرب التفاوض للوصول إلى تسوية.
الخطر الثاني الكبير هو استمرار نقص التعاون الدولي، بل وتراجع هذا التعاون إلى مستويات منخفضة غير مسبوقة، فالمؤسّسة الأممية الأكبر والأهم، أي الأمم المتحدة، تشهد صراعات كبرى، بدأت قبل الحرب الروسية الأوكرانية، وازدادت خلالها، وأصبحت هذه المؤسّسة تعمل بطريقة غير فعالة، أو في نطاق الحدّ الأدنى الممكن، ريثما تتغير المعادلات وموازين القوى، لكن من الناحية العملية، فإن تغيّر موازين القوى بشكل كبير، في حال حدوثه، ستحتاج نتائجه إلى وقت حتى تظهر بالتبلور، أو تقتنع الأطراف الكبرى بالمتغيّرات فيه، ومن ثمّ تسلم بها، خصوصاً روسيا، لكن من المعروف أن النظام الروسي ليس من الأنظمة المعتادة على الاستسلام السريع للمتغيّرات الدولية، وشأنه في هذا شأن دول أخرى، آسيوية ولاتينية وشرق أوسطية، ليس من مصلحتها حدوث تحوّلات حاسمة لمصلحة جبهة أمريكا والغرب.
في قلب هذا النقص الحاصل في التعاون الدولي، نشأت معاناة كبيرة في مجال الطاقة، تركت أثراً واضحاً ومباشراً على خريطة الإنتاج العالمي، وعلى سلاسل توريد البضائع، كما أنشأت ضرورات جديدة من حيث تغيير خريطة الاستيراد، الأمر الذي يسلتزم إعادة تكيّف تكنولوجية، بما فيها زيادة الاعتماد على الغاز المسال، لتعويض الفاقد من الغاز الطبيعي، وزيادة الاستثمار في الطاقة البديلة، لكن من المستبعد حدوث تكيّف سريع في هذا الإطار، كما أن إمكانيات الاستجابة لهذا التكيّف غير موجودة بالقدر نفسه لدى جميع الدول، كما أن تغيّر خريطة الاستيراد لن يكون أمراً مفصولاً عن الاشتراطات السياسية، والتي تستدعي هي الأخرى، إحداث تحوّلات في العلاقات الخارجية لكثير من الدول.
أما الخطر الرابع، وهو في الحقيقة يقف كأحد الأسباب الرئيسية الكبرى للمخاطر الأخرى، إن لم يكن السبب الأهم، وهو الصراع الأمريكي الصيني، الذي يشهد أحد فصوله المتقدّمة، بعد سنوات من الحرب التجارية والتشريعية التجارية الأمريكية على الصين، التي بدأت بقوة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، ولا تزال مستمرّة؛ حيث تسعى واشنطن إلى الحدّ من هيمنة بكين على الأسواق، وإضعاف قدرتها في مجال الصناعات فائقة الدقة، ومحاصرتها بعدد من الملفّات، مثل حقوق الإنسان، وشبه جزيرة تايوان، وزيادة الخلافات بينها وبين جيرانها في الهند واليابان وكوريا الجنوبية.
أما الخطر الخامس، فهو خطر يهدّد البشرية كلّها، فالأوضاع العالمية الراهنة، وجّهت ضربة قوية للأمن الغذائي العالمي، وأحدثت موجة من التضخّم في مجمل الأسواق، الأمر الذي يعني من الناحية العملية ضعف القوة الشرائية لمعظم العملات الوطنية، وحدوث نقص كبير في المواد الغذائية الأساسية، خصوصاً الحبوب، كما أن ازدياد أسعار الطاقة، أدى إلى ارتفاع كبير في تكاليف الإنتاج، وبالتالي زيادة في أسعار البضائع، تحدّ من قدرة الكثير من الفئات الاجتماعية على الحصول عليها، وكذلك، عدم قدرة معظم الحكومات، خصوصاً في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، على الاستجابة لهذه الأزمة القوية متعدّدة الأوجه، والتي تتركّز بقوّة في الأوضاع المعيشية اليومية، وبالتالي، فإن تلك الحكومات معرّضة لحدوث موجات احتجاجات قوية، من دون أن تمتلك أية أدوات ناجعة في معالجة أسبابها، وبالتالي نشوء حالات جديدة من الفوضى والاضطرابات السياسية.
نقلا عن الخليج