خطّة إسرائيليّة للاحتلال ولا خطّة لدولة فلسطينيّة – الحائط العربي
خطّة إسرائيليّة للاحتلال ولا خطّة لدولة فلسطينيّة

خطّة إسرائيليّة للاحتلال ولا خطّة لدولة فلسطينيّة



أصبحت بداية شهر رمضان الموعد الأقرب لـ”الهدنة الموقتة”، لكنه بعيد بمقياس عذابات سكان غزّة وأيام الحرمان من أبسط متطلّبات العيش، عدا القصف الإسرائيلي والموت الذي يطاردهم. فأصعب الأوقات وأخطرها في كل الحروب هي تلك التي تسبق الهدن، وقد تستغلّ إسرائيل الأسبوعين المقبلين لمواصلة التصعيد وارتكاب مزيد من المجازر أو البحث عن أهداف لم تدمّرها بعد في القطاع كما فعلت أخيراً بمنزل الراحل ياسر عرفات، وهو بالتأكيد ليس مقراً لـ”حماس”، لكن نزعة الانتقام لا تعترف بأي رمزية ولو معنوية.

وما دام الجيش الاسرائيلي قد أخفق في إنهاء قدرات “حماس” والفصائل، ولا يزال يتلقّى ضربات يخسر فيها قتلى وجرحى، فإنه سيستمرّ في عملياته حتى اللحظة الأخيرة التي تسبق وقف إطلاق النار، سواء لتأكيد أن الهدنة ليست نهائية بل سيكون هناك ما بعدها، أم لترسيخ خريطة بقائه في غزّة على رغم وقف القتال تسهيلاً لتبادل الرهائن والأسرى، وكذلك للحفاظ على تموضعه للهجوم لاحقاً على رفح.

أعادت واشنطن إحياء مفاوضات الهدنة، فارضةً على الجميع شروط “الممكن”، متخطّية بنيامين نتنياهو وبعضاً من “لاءاته” الاستعراضية، ومستعينةً بالوسيطين المصري والقطري لتليين شروط “حماس” وإقناعها بصعوبة الحصول على انسحاب إسرائيلي كامل من القطاع لأنه مرفوض حتى أميركياً، أو على إطلاق العدد الذي تتوخّاه من الأسرى الفلسطينيين مقابل الرهائن الإسرائيليين. وعدا أن طرفي الحرب يرغبان في الهدنة، فإن الإدارة الأميركية كطرف ثالث تريدها أيضاً، فعلى رغم استسهالها إشهار “الفيتو” في مجلس الأمن، إلا أن احتجاجات الرأي العام الداخلي بلغت درجة فاقت التوقعات في الجسم الانتخابي الذي يعوّل عليه جو بايدن وباتت تقلقها فعلاً، كما أنها لم تعد قادرة على تجاهل احتجاجات الرأي العام الدولي الذي اضطر حلفاءها لمطالبتها بأن تفعل شيئاً لتحريك تصلّب نتنياهو ووزرائه المتطرّفين. وفيما شكّل إقرار الكونغرس المساعدة المقرّرة لإسرائيل حافزاً مسهّلاً لإرسال مبعوث بايدن، بريت ماكغورك، إلى مصر وإسرائيل لإبلاغهما وجوب إنهاء المماطلة في شأن الهدنة، فقد استُبقت هذه الخطوة أيضاً بالتلويح بأن واشنطن نفسها تفكّر في تقديم مشروع قرار إلى مجلس الأمن يطلب وقفاً موقتاً لإطلاق النار.

في غضون ذلك، بدأت محكمة العدل الدولية جلسات الاستماع إلى إحاطات الدول حول الاحتلال الإسرائيلي والتبعات القانونية المترتبة عليه. وعدا الولايات المتحدة والدول الغربية التي تفادت مسألة الاحتلال وقانونيته لتركّز على “أمن إسرائيل” و”المفاوضات” من أجل “حلّ الدولتين”، فإن غالبية كبيرة من الدول ظهّرت الإشارة إلى “لا قانونية الاحتلال” والمطالبة بإزالته، كذلك “وقف الاستيطان” وضرورة احترام حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره واحترام خصوصية القدس بالنسبة إلى الفلسطينيين… فهذه وغيرها من الحقوق التي تنتهكها إسرائيل، في إطار مخالفتها للقوانين الدولية، هي من متطلّبات “حلّ الدولتين” كتسوية عادلة.

صحيح أن الرأي الاستشاري لمحكمة لاهاي ليس ملزماً لأي حكومة، إلا أنه سيحدّد بوضوح ما هو قانوني أو غير قانوني في ما يتعلّق بالاحتلال الإسرائيلي وممارساته، وسيكون رأي المحكمة سلاحاً إضافياً للدول كافةً وبخاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة، ولن يستطيع أي طرف دولي تجاهله خلال أي بحث مقبل في القضية الفلسطينية وسلوكيات الاحتلال الإسرائيلي.

قد يكون من انعكاسات هذا الحدث في محكمة لاهاي أن يقول وزير خارجية أميركي، للمرّة الأولى، إن الاستيطان “يتعارض مع القوانين الدولية”. فهذا ما أعلنه أنطوني بلينكن تعليقاً على قرار لحكومة إسرائيل بإنشاء 3300 وحدة استيطانية جديدة، ما لفت المراقبين إلى أنه يتراجع عن قرار اتّخذ في عهد إدارة دونالد ترامب وعُرف بـ”مبدأ بومبيو” وكان جزءاً من سلسلة لاءات لتغيير مصطلحات أي مقاربة للملف الفلسطيني، ومنها الاعتراف بشرعية المستوطنات، وعلى رأسها تغييب مصطلح “الاحتلال” وتشريع “ضمّ الأراضي”. غير أن التجربة برهنت أن كلام أي رئيس أو وزير في الإدارة لا يشكّل سياسة ثابتة ودائمة للولايات المتحدة، فهذه ليست “مبدئية” ولا مراعية للقانون الدولي بل تستند إلى المصالح السياسية. لذلك يبقى الكلام الذي كرره بلينكن مراراً موضع شك، وهذا ينطبق على “حلّ الدولتين” ورفض تهجير الفلسطينيين وإعادة احتلال قطاع غزّة والاقتطاع من مساحة الأراضي الفلسطينية. فكلّ ذلك يخضع للأمر الواقع الذي تفرضه قوات الاحتلال على الأرض.

في هذا السياق يُمكن النظر إلى “خطة اليوم التالي” التي طرحها نتنياهو وصاغها من الأفكار التي كرّرها في مؤتمراته الصحافية، متمشياً مع “العقيدة” التي يتشاركها مع بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير ويعتبر نفسه زعيماً تاريخياً أوحد قادراً على تجسيدها. تستعيد “الخطة” ما كان صاحبها عرضه على منبر الأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) الماضي، وأبرز ما فيها خريطة “السيطرة الأمنية على كل المناطق غرب نهر الأردن”، أي ما يشتمل على الضفة الغربية وقطاع غزّة، وكان ذلك عشية “طوفان الأقصى” والحرب التي أعقبته وأتاحت في ما أتاحت لإسرائيل شهوراً طويلة من سفك دماء المدنيين والتدمير الجراحي لغزّة، بدعم أميركي – غربي مطلق، ومن دون أي تفكير في وقفها عند حدّ يبقي مساحة تفاوض واقعية للحلول السياسية. وبمعزل عن إمكان تحقيق هذه “الخطة” أو لا فإن نتنياهو ليس مخطئاً بقوله إنها “تعكس إجماعاً شعبياً” في إسرائيل، إذ إن تأييد الرأي العام الداخلي للحرب ظلّ كبيراً على رغم قضية الرهائن والرفض السياسي العارم لوجود نتنياهو في السلطة.

لا تستبق “الخطة” فقط كل طرح جدّي لخيار “الدولة الفلسطينية” وكل تسويات يمكن أن تتبلور في الخارج، وكل ما سيصدر عن محكمة لاهاي في مسألتي “لا قانونية الاحتلال” و”الإبادة الجماعية”، بل ترتكز على أن أهمّ الأهداف الأساسية للحرب (إعادة احتلال غزّة وإخراجها من الخريطة الفلسطينية) تحقّق بنسبة كبيرة، وتتعامل مع تهجير الغزّيين على أنه حاصلٌ بشكل أو بآخر، خصوصاً أن دولاً كثيرة تدرس منذ فترة نسب المهجّرين التي يمكنها استيعابها ولا تبحث في أي خطط لإبقاء السكان في القطاع بل فقط في مساعدتهم إنسانياً على عدم السقوط ضحايا الجوع والأمراض. وبموازاة ذلك تعيد “الخطة” طرح خيار “الوطن البديل” من دون إشارة مباشرة وصريحة إليه، إذ شكّلت ممارسات قوات الاحتلال والمستوطنين ما يمكن اعتباره إرهاصات الحرب التالية في الضفة الغربية عبر تهجير سكان العديد من القرى الفلسطينية… تعلّمت إسرائيل من تجربة تحالفها مع الولايات المتحدة أن أي إدارة يمكن أن تتكيّف مع أي خطة إسرائيلية تفرض عليها مهما بدت خيالية أو غير قانونية، فهكذا كانت “صفقة القرن” مع ترامب، وهكذا يمكن أن تُستكمل معه إذا أعيد انتخابه، أما إذا فاز خصمه بايدن فإنه سيكون عندئذٍ أكثر ارتياحاً في تسهيل الأطماع الإسرائيلية.

نقلا عن النهار العربي