في مقالة سابقة علي هذه الصفحة، نهاية الشهر الماضي، تناولتُ أزمةَ التنظيم الدولي، بمعنى القيود البنيوية التي تعرقل اضطلاعَه بمسؤولياته الجسام في حفظ السلم والأمن الدوليين، والتي تتمثل من جانب في حق النقض الذي تتمتع به الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، ومن جانب آخر في الاستقطاب بين هذه الدول، والذي ظن الكثيرون أنه وصل نهايتَه بتفكك الاتحاد السوفييتي، لكن الأمر لم يتطلب سوى عقد من الزمان لكي يطل الاستقطابُ برأسه من جديد ويصل ذروتَه بمناسبة الحرب في أوكرانيا. وقد انعكس هذا الاستقطاب على تصدي مجلس الأمن الدولي للأحداث الراهنة في غزة، إذ فشلت كل المحاولات طيلة أكثر من شهر على بداية الأحداث في التوصل إلى قرار يحظى بأغلبية الأصوات، ويتفادى حق النقض. وأخيراً أمكن في منتصف الشهر الجاري نجاح المحاولة الخامسة للتوصل إلى قرار باعتماد المشروع الذي تقدمت به مالطا بعد أن حظي بتأييد 12 دولة، بينها دولتان دائمتا العضوية هما الصين وفرنسا، وامتنعت 3 دول دائمة العضوية هي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وروسيا عن التصويت. وقد دعا القرار لسلسلة من فترات التوقف عن القتال تمتد لأيام عدة تكفي لإيصال المساعدات الإنسانية بشكل كامل وعاجل وآمن دون عوائق، ولإطلاق سراح جميع المحتجزين، خاصة الأطفال، دون قيد أو شرط، وللتمكن من إجراء الإصلاحات العاجلة في البنية التحتية الأساسية والمباني المتضررة والمدمرة. وأهاب القرار بجميع الأطراف الامتناع عن حرمان السكان المدنيين في غزة من الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية اللازمة لبقائهم على قيد الحياة. وقد حجبت كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وروسيا موافقتها على القرار لأسباب مختلفة بطبيعة الحال، إذ كانت الدولتان الأوليان تريدان للقرار أن يتضمن إدانةً صريحة لحركة «حماس»، بينما كانت روسيا تريد استمرارَ الهدنة بحيث تساوي وقفاً دائماً لإطلاق النار، بينما لم يَحُل أي من الاعتبارين دون موافقة الصين وفرنسا على مشروع القرار.
ولعبت دولة الإمارات باعتبارها العضو العربي الوحيد في مجلس الأمن دوراً مهماً ولافتاً في التوصل للقرار، قدَّره مندوبُ فلسطين في الأمم المتحدة بوصفه مساهمةً قيمة في التوصل للقرار، موجهاً الشكر إلى السفيرة لانا زكي نسيبة، المندوبة الدائمة للإمارات، قائلا إنها «مثلتنا جيداً، ونسقت معنا في كل التفاصيل، وكملنا بعضنا البعض من أجل تحقيق ما توصلنا إليه». وكان لافتاً في الكلمة التي ألقتها السفيرة بعد التصويت إشارتها إلى أن القرار هو الأول الذي يصدره مجلس الأمن بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منذ عام 2016، وتشديدها على ضرورة عدم التقليل من أهمية العناصر الأساسية للقرار، وما تعنيه عملياً لأهل غزة، وذلك وعياً منها بالانتقادات الموجهة له باعتباره غير كافٍ، ومن هنا تأكيدها على أنه ليس سوى بداية، والعزم على مواصلة العمل من أجل الوقف التام لإطلاق النار. كما لم يفتها التركيز على الأوضاع في الضفة الغربية، وعلى تَعرُّضِ الفلسطينيين للموت في الأراضي التي يُفترض أن تكون جزءاً من دولتهم المستقبلية، والمطالبة بمحاسبة مرتكبي هذه الهجمات، وتوفير الحماية التي يوفرها القانون الدولي للفلسطينيين. والحقيقة أنها نموذج مشرف للمرأة العربية في مثل هذا الموقع الدبلوماسي المهم. ويبقى التحدي الحقيقي أن يتم تنفيذ القرار، لأن معضلة قرارات مجلس الأمن مزدوجة، شقها الأول صعوبة التوصل إلى تفاهمات تؤمِّن صدورَ القرار، وشقها الثاني تحدي وضعه موضع التطبيق.
نقلا عن الاتحاد