يلاحظ المتابع للشئون العربية تزايُد الدعوات لتنظيم حوارات وطنية بين القوى السياسية والقوى المجتمعية المختلفة، وهو ما يعكس الحاجة إلى توسيع دائرة التشاوُر حول المستجدات الداخلية التى تواجهها دول المنطقة والمتغيرات الخارجية التى تؤثّر عليها. فلو أننا أخذنا الشهرين الأخيرين فقط لوجدنا أن اليمن وتونس ومصر والسودان والجزائر على التوالى قد شهدت دعوات للحوار الوطنى تقاطعَت فى بعض جوانبها واختلَفت فى البعض الآخر.بدايةً باليمن اقترح مجلس التعاون الخليجى إطلاق حوار بين قوى الشرعية وجماعة أنصار الله الحوثية بهدف إنهاء الحرب اليمنية، ومن ثمّ العمل على تعزيز مؤسسات الدولة ومكافحة الفساد ودعم المساعدات الإنسانية لليمن، وكان من المقرّر أن يتم توجيه الدعوة لنحو ٥٠٠ شخص وهو عدد يقترب من عدد الحاضرين فى مؤتمر الحوار الوطنى الذى انعقد فى عام ٢٠١٣ وبلغ حينها ٥٦٥ شخصًا.اعترض الحوثيون على انعقاد المؤتمر المقتَرَح فى الرياض وهم الذين لم تزد نسبة تمثيلهم فى مؤتمر ٢٠١٣ على ٦٪. فقط ما يوضّح تغيّر موازين القوة على الأرض بعد سيطرتهم على العاصمة، وبناء على هذا الرفض تحوّل المؤتمر المقترَح من حوار بين الشرعية والحوثيين إلى حوار داخل معسكر الشرعية،ما أدّى إلى تكوين مجلس رئاسى خلفًا لرئاسة عبد ربه منصور هادي.وإذا انتقلنا إلى تونس فلقد ظلت فكرة الحوار الوطنى مطروحة بإلحاح منذ أكثر من عام عندما تبناها الاتحاد التونسى العام للشغل من أجل البحث عن مخرج من الأزمة السياسية الحادة التى كانت تعانيها تونس. وعندما اتخذ الرئيس قيس سعيد قراراته التاريخية فى ٢٥ يوليو الماضى ووجدَت حركة النهضة نفسها منبوذة من أغلبية الشعب التونسى التقطَت فكرة الحوار ودعت إليه، وذلك فى محاولة للالتفاف على قرارات يوليو الخاصة بتجميد عمل البرلمان.وفى الأخير وبعد أن رسم الرئيس قيس سعيد خارطة طريق تنتهى بإجراء انتخابات مبكّرة لمجلس النواب نهاية هذا العام، قام بطرح مبادرة لحوار وطنى تتولاه لجنة استشارية بحيث تنظر فى الإصلاحات الدستورية والسياسية من جهة وتتقدم باقتراحات لجملة من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى. وخلال حفل إفطار الأسرة المصرية دعا الرئيس عبدالفتّاح السيسى إلى تنظيم مؤتمر للحوار الوطنى يتولّى إدارته المؤتمر الوطنى للشباب وينسّق مع مختَلَف القوى الحزبية والأطر الشبابية، وتُعرَض نتائج هذا المؤتمر على مجلسّى النواب والشيوخ لمزيد من النقاش وبلورة الأفكار. وتناوَل الرئيس قضية الإصلاح السياسى كأحد محاور المؤتمر المقترَح، وهى القضية التى شهدَت اهتمامًا متزايدًا بها فى العام الأخير مع إطلاق الاستراتيچية الوطنية لحقوق الإنسان واعتبار عام ٢٠٢٢ عامًا للمجتمع المدنى، فضلًا عن التوسع فى الإفراج والعفو عن المتهمين والمحبوسين احتياطيًا. وبالإضافة إلى هذا المحور السياسى من المفهوم أن يمثّل الاقتصاد محورًا آخر للمؤتمر وذلك على ضوء الانعكاسات السلبية للحرب الأوكرانية على الاقتصاد العالمى ومصر ليست استثناء من ذلك. وفى السودان فإن الفريق عبدالفتّاح البرهان رئيس مجلس السيادة ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتى) مدعومَين بالآلية الثلاثية (الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقى والإيجاد) دعوا القوى السياسية والمجتمعية لحوار فى ١٠-١٢ مايو الجارى للاتفاق على إدارة المرحلة الانتقالية. وأخيرًا وقبل بضعة أيام فقط تحدّث الرئيس الجزائرى عبدالمجيد تبوّن عن يده الممدودة لجميع الجزائريين، وذهب البعض إلى أن ذلك قد يفضى إلى حوار وطنى يركّز أساسًا على الشأن الاقتصادى، وذلك بعد أن كان الرئيس تبّون قد استهّل عهدته بسلسلة من الإصلاحات السياسية بدأت بتعديل الدستور والاستفتاء الشعبى عليه لأول مرة (حيث كانت القاعدة من قبل التصويت على التعديلات الدستورية داخل البرلمان)، ثم انتقلَت إلى إجراء الانتخابات التشريعية فالبلدية. ومعلوم أن تلك الإصلاحات السياسية كانت قد سبقتها حوارات بين تبّون ورؤساء الأحزاب تحت مسمّى جلسات قصر المرادية – أى قصر الرئاسة. عندما نقارن بين هذه المبادرات كافة يمكن لنا أن نسجّل عليها عددًا من الملاحظات الأساسية،الأولى أن ثلاثًا منها هى تونس ومصر والجزائر تنطلق من الحاجة لتجديد الفكر الاقتصادى والسياسى وصولًا فى حالة تونس إلى تعديل دستور ٢٠١٤، وفى حالة السودان فإن المطلوب هو رسم معالم الطريق للمرحلة الانتقالية كما سبق القول.أما بالنسبة لمبادرة اليمن فإن أولويتها هى وَقف الصراع المسلّح الدائر من أكثر من ستة أعوام، وتاليًا على ذلك يأتى الاهتمام بالوضعين السياسى والاقتصادي. الملاحظة الثانية أن الدعوة للحوار جاءت من الداخل فى كل من تونس ومصر والجزائر، وجاءت الدعوة فى السودان داخلية/ دولية- إقليمية، أما فى اليمن فإن المبادرة جاءت من الخارج بحكم أن مجلس التعاون الخليجى حاضر فى المشهد اليمنى منذ ٢٠١١. الملاحظة الثالثة أن فكرة الحوار فى تونس ومصر والجزائر لا تشمل العناصر التى رفعت السلاح فى وجه الدولة أو عملت ضده من الخارج، بينما فى السودان فإن بعض الحركات المسلحة تشارك بالفعل فى الحكومة بموجب اتفاق جوبا فى أكتوبر ٢٠٢٠ وبالتالى فإنها مدعوة للحوار الوطنى.
وفيما يخص اليمن فلأن جوهر المبادرة كان هو فى الأساس إنهاء الصراع المسلّح كان لابد من حضور الحوثيين، أما وقد قاطعوا المؤتمر فلقد تحوّل لتغيير هيكل السلطة السياسية. الملاحظة الرابعة والأخيرة أنه مع الإقرار بوجود صعوبات فى إجراء تلك الحوارات، إلا أن شيوع لغة الحوار فى المنطقة هو موضع ترحيب، وهناك فرص حقيقية للنجاح طالما كان هناك وضوح فى الرؤية وتحديد للقضايا وتوافر إرادة التجديد ووضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.
نقلا عن الأهرام