تعيش البشرية عصر الثورة الصناعية الرابعة، ومنذ قريب طرقت أبواب الثورة الصناعية الخامسة التى تتميز بالتركيز الأكثر عمقا وتفصيلا وفاعلية على تهجين الذكاء البشرى بالتقنيات الحديثة، على عكس الثورة الصناعية الرابعة التى احتدم فيها عدم التوازن بين القوى البشرية العاملة والتقنيات الحديثة. وتدخل العمليات الإنتاجية والاقتصادية، بل وإدارة الدول فى عمومها، فى القلب من هذا التحول نحو الثورة الصناعية الخامسة.
ولذا لابد أن نعيد تأهيل أنفسنا، وأن نعيد تدشين مؤسساتنا العربية من جديد لكى تواكب العصر، ولكى تنفتح على العالم وعلى كل مجالاته فى عمليات التحول. والأمر عندى لا يقف عند هذه الحدود، بل يأخذ طابع الهم التاريخى فى البحث عن آليات جديدة للوحدة العربية.. آليات مستحدثة تودع آليات نظام الاقتصاد الرعوى القديم، وتدخل فى قلب عصر التقدم المتسارع الوتيرة والذى يعمل على تجديد نفسه باستمرار.
وهذا المبدأ العام فى التفكير والتغيير، والانتقال من القديم إلى الجديد والنافع، هو الذى سار عليه الصحابى الجليل عمر بن الخطاب عندما تولى أمر الدولة الإسلامية. ومن روائع عمر أنه استحدث نظما جديدة ليست فى الإسلام، مثل الدواوين الحكومية، وأخذ فيها عن الأمم الأخرى. ولم يرفع عمر شعار أننا الأفضل فى كل شيء وعندنا كل شيء! واستفاد من الأنظمة الفارسية والرومانية، مثل: بيت المال، وديوان الإنشاء، وديوان العطاء، وديوان الجند، إلخ. كما أبقى عمر على النقود المسيحية والفارسية الذهبية والفضية التى كانت متداولة وعليها نقوشهم. وهو أول من ضرب النقود فى الإسلام، بل اعتمد النقش الفارسى مضيفا عليه «لا إله إلا الله» أو «الحمد لله» ووضع على جزء منها اسمه.. (تقى الدين المقريزى، شذور العقود فى ذكر النقود، ص 31 ـــ 33).
إننا نعيش فى هذا العصر سريع التحول، والملىء بالتحديات المصيرية، ولابد أن نفكر فى إطار هموم أمتنا، وفى القلب من هذه الهموم «الوحدة الاقتصادية العربية». وهذا ما سبق أن أكدناه فى افتتاحية فعاليات مؤتمر «الاقتصاد الرقمى العربي» فى نسخته الأولى، فى أبو ظبى 2018، والذى تم فيه إطلاق الرؤية العربية المشتركة للاقتصاد الرقمى بالتعاون مع جامعة القاهرة، وذلك لإيجاد صيغة جديدة للتعاون العربى المؤسس على المنظومات الرقمية.
ولا شك أن أشكال الوحدة، وأنماط الدولة، وأنظمة الأمة والإمبراطوريات، قد تغيرت عبر التاريخ، ولم يعد ممكنا الآن أن نستعيد لحظة معينة فى الماضى لكى نعيشها الآن، ولا أن نستعيد أيضا آليات العصور الماضية التى كانت تلائم ظروفا اجتماعية وسياسية واقتصادية أخرى غير تلك التى نعيشها الآن.
لقد أصبحت فكرة الإمبراطورية خارج التاريخ، والبشرية ترتقى، والإنسان يتطور، ونحن الآن نعيش فى عصر الدولة الوطنية، وربما تأخذ الوحدة فى المستقبل أشكالًا أخرى جديدة ومتجددة.
ويحتم السؤال الآتى نفسه: لماذا فشلت كل أشكال الوحدة العربية حتى الآن؟
ربما تكون الإجابة أننا نسعى للوحدة فى أنماطها وأشكالها القديمة التى تجاوزها التاريخ.. ولا نزال نفكر بالطريقة القديمة نفسها، ولا نزال نتعارك حول معارك الماضى بذات العقول العتيقة.
إذن لابد أن نبحث عن نمط جديد وعن شكل آخر يتواكب مع روح العصر.. وأن نفكر بطريقة جديدة تتجاوز طرق التفكير الموروثة.
إن كل الحديث فى العقود الأخيرة، عن الوحدة العربية، هو حديث ود ومحبة وتقدير متبادل أحيانا، أو حديث تخوين وتخاذل وأنانية فى أحيان أخرى. لكنه لم يتحول يومًا ما إلى حديث إيجابى ومنتج عن إستراتيجية واقعية ومحددة المعالم وقابلة للتنفيذ.
اليوم، ونحن نسعى إلى البحث عن تنفيذ إستراتيجية للتحول نحو «الوحدة الاقتصادية العربية»، ربما يشاء القدر أن يفتح لنا فرصة جديدة لكى نتوحد وفق آليات العصر، لا من أجل شعارات قديمة براقة، ولكن من أجل أن يتحول الاقتصاد العربى إلى واحد من أكبر الاقتصاديات فى العالم، خاصة إنه من حيث البنية والموارد يملك الكثير والكثير، إلى درجة تجعله فى بؤرة عوامل التأثير فى الاقتصاديات العالمية. وهذا ما ظهر مجددا ومؤخرا فى أزمة الطاقة العالمية بعد الحرب الأوكرانية والصراع بين الأقطاب الدولية حولها.
واليوم أحلم، ويحلم معى الكثيرون، بأن تتطور الاستراتيجيات العربية وتتحول إلى إستراتيجية اقتصادية عربية موحدة عبر منظومة رقمية ذكية موحدة، تفتح لنفسها مجرى جديدا، وتقدم شكلًا مستحدثا من أشكال الوحدة الاقتصادية العربية.
بحكم منطق التاريخ، لا سيما فى جانبه الاقتصادى، أرى أننا لو استطعنا أن نوجد آليات مشتركة واحدة فى الاقتصاد العربى، ربما سيصنع هذا لنا أشكالا أخرى من الوحدة فى الجوانب الاجتماعية والسياسية والتعليمية والثقافية وفى غيرها من الأمور. فالاقتصاد من بين أكثر العناصر المؤثرة فى حركة التاريخ، سواء كعنصر ظاهر جليّ أو كعنصر متقنع بالأيديولوجية أو الدين.
والسؤال: متى يأتى اليوم الذى نصل فيه إلى المرحلة التى يمكن أن نتحدث فيها عن العرب كوحدة اقتصادية واحدة أمام كل التكتلات الدولية ذات النزعة الوحشية؟
نقلا عن الأهرام