حرب بالوكالة:
الصراع على ملء الفراغ في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي

حرب بالوكالة:

الصراع على ملء الفراغ في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي



يستعد وفد رسمي يضم رئيس المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية عبد الله عبد الله والرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاى إلى إجراء مفاوضات جديدة مع حركة “طالبان” سوف تكون الأولى من نوعها بين الفاعلين على الساحة الداخلية الأفغانية، في إطار ترتيبات الأوضاع الداخلية في مرحلة ما بعد الانسحاب العسكري الأمريكي من أفغانستان بنهاية أغسطس المقبل، وفقاً لمخرجات اتفاق الدوحة (فبراير 2020)، وفي سياق ما يسمى بعملية المصالحة الوطنية، التي تهدف إلى كبح اندلاع حرب أهلية جديدة في ظل مشهد التصعيد المسلح بين حركة “طالبان” والقوات الحكومية مؤخراً، وتمدد الحركة بمعدلات تكشف عن قدرتها على تغيير موازين القوى في البلاد لصالحها، وإضعاف حكومة كابول إن لم يكن إسقاطها مستقبلاً.

ويعكس هذا السياق دلالة رئيسية مفادها أن القوى الداخلية هي من يسعى إلى ملء الفراغ على الساحة، إلا أنه لا يزال من المبكر استشراف مآل هذه المفاوضات في ظل ديناميكية الوضع الراهن. فمن بين كافة مخرجات الاتفاق، فإن ضمانات تنفيذه باتت محل شك باستثناء عدم تحول أفغانستان مرة أخرى إلى قاعدة لإطلاق هجمات مرة أخرى ضد الولايات المتحدة، وهو ما أكده الرئيس الأمريكي جو بايدن في خطابه في 8 يوليو الجاري لكنه أشار في الوقت ذاته إلى عدة توقعات وسيناريوهات يرتبط معظمها بالوضع الداخلي، وتكشف أن “طالبان” وصلت إلى أعلى مستوى عسكري منذ 2001 تاريخ الاحتلال الأمريكي لأفغانستان في أعقاب هجمات سبتمبر. لكن تقديرات الاستخبارات الأمريكية – وفق بايدن – تكشف أيضاً أن سيطرة “طالبان” على أفغانستان ليست حتمية وأن الحكومة الأفغانية لن تنهار كما أنه يثق في قدرات القوات الأفغانية، ولفت إلى أنه لم يتمكن أي بلد من توحيد أفغانستان في السابق.

وفى ضوء هذا الخطاب، فإن الرؤية الأمريكية لمستقبل الأوضاع على الساحة الأفغانية ترجح سيناريو الفوضى والتصعيد وبالتبعية عدم استقرار الأوضاع في ظل تلك المؤشرات، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1- ميل موازين القوى لصالح “طالبان”: التي أصبحت أقوى مما كانت عليه عند الغزو الأمريكي لأفغانستان، وهو في واقع الأمر أحد الدروس المستفادة من الخبرة الأفغانية، فخلال الحرب الأفغانية- السوفيتية، اكتسبت الفصائل الأفغانية المنخرطة في القتال خبرات نوعية في القتال في تضاريس وعرة، ومن المفارقات المعروفة آنذاك أن الولايات المتحدة كانت وراء إكساب “طالبان” قدراً كبيراً من هذه الخبرة بالإضافة إلى الأسلحة النوعية الأمريكية وغنائم الحرب، ودفعت الولايات المتحدة الثمن عندما أصبحت في موقع العدو، فقبل أن تبدأ واشنطن حربها ضد “طالبان” كان المقاتلون الأفغان قد اكتسبوا خبرة 10 سنوات من القتال الشرس مع القوات السوفيتية، والآن أصبح لديها ما يزيد على خبرة جيل كامل خاض حرب عصابات مع اثنين من أقوى الجيوش في العالم.

2- غياب الضمانات في تنفيذ اتفاق الدوحة: في مقابل إشارة الرئيس بايدن إلى عدم الثقة في “طالبان”، فإنه أكد على الثقة في قدرات القوات الحكومية، لكن من الناحية الواقعية يوحي تكتيك تحرك “طالبان” بالتزامن مع خطاب بايدن، بأن الحركة تراهن على الهيمنة على أفغانستان، فتوجه الحركة نحو الأطراف – الحدود مع دول الجوار- بدلاً من التوجه صوب كابل، هو محاولة لتأكيد أنها هي من يسعى لملء الفراغ وعدم السماح لقوى خارجية باختراق الحدود، أما عملية إسقاط العاصمة كابل فليست أكثر من مسألة وقت عندما تقرر الحركة إسقاطها، حيث يحتلمقاتلوها التلال والجبال التي تحيط بالعاصمة وبالتالي هم في وضع أفضل من هذه الناحية.

3- صفقة لا مصالحة: تجري عملية المصالحة بين الأطراف المحليين على وقع تقدم “طالبان” ميدانياً، كما أن عامل الثقة بينهم لا يزال غير متوافر، فرئيس لجنة المصالحة الوطنية عبد الله عبدالله لديه قناعة بأن “طالبان” تستغل الوقت الحالي في المفاوضات للسيطرة على المزيد من الأراضي، في المقابل يشير معتصم أغاخان رئيس اللجنة السياسية للحركة إلى أنها تسعى إلى حل القضية عبر المفاوضات، واللافت في سياق حديثه التأكيد على أن “طالبان” لا تسعى إلى الانفراد بالسلطة هذه المرة، في تلميح إلى أنها استوعبت درس 2001 عندما أسقطت الولايات المتحدة سلطتها، وبالتالي فإن “طالبان” نفسها تراهن على المشاركة في السلطة مستندة على قاعدة قوية تجمع ما بين النفوذ وقوة الإمكانيات.

اتجاهات مختلفة:

على الساحة الخارجية، يبدو الموقف مختلفاً، فأغلب القوى الخارجية، لاسيما روسيا والصين ترى أن الولايات المتحدة تسببت في أزمة غير مسبوقة عندما قررت الانسحاب من أفغانستان، لكن تلك الأطراف وغيرها لا تزال تراقب تطورات المشهد وتخشى عواقبه، وهو ما يمكن تناوله في النقاط التالية:

1- جوار قَلِق: تتجه التقديرات الروسية، الرسمية وغير الرسمية، إلى أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان أشبه بتصميم الولايات المتحدة لـ “قنبلة زمنية” ستنفجر في وجه القوى المحيطة بأفغانستان، إلا أن موسكو ليست مستعدة للمغامرة بعبور الحدود الأفغانية مرة أخرى. بينما الصين، التي تبدو قلقة من انعكاسات صعود “طالبان” على العلاقات مع الإيغور، لم تفصح عن طبيعة التحركات بشأن القادم مع أفغانستان، على الرغم مما تشكله من أهمية استراتيجية لها في إطار مشروع الحزام والطريق، فيما كانت إيران-بالإضافة إلى أوزبكستان- في واجهة ارتدادات الانسحاب الأمريكي، فالحركة سيطرت على معبر “اسلام قلعة” الاستراتيجي مع إيران، كما سيطرت على معبر “تورغندي” مع أوزبكستان، فيما يبدو أن باكستان الأقل تخوفاً من التبعات.

2- سياسة الاحتواء المتبادل بشكل مؤقت: تتجه مواقف القوى الإقليمية إلى سياسة الاحتواء المؤقت لتداعيات الانسحاب الأمريكي، فقد استضافت روسيا وفد الحركة رغم أنها مصنفة لديها كتنظيم إرهابي، وبادل التنظيم موسكو التوجه ذاته، بأن سعى إلى طمأنتها، إلا أن المبعوث الروسي الخاص إلى أفغانستان زامير كابلوف أعاد تسليط الضوء مرة أخرى على دور منظمة الأمن الجماعي استعداداً لما هو قادم، وسرّبت الصحافة الروسية تقارير بشأن استعدادات عسكرية روسية على الحدود مع أفغانستان، لاسيما في طاجيكستان، حيث تتواجد قاعدة روسية. ولكن لا يعتقد أن سياسة الاحتواء ستستمر طويلاً، فالحركة تطلب رفع تصنيف روسيا لها كتنظيم إرهابي، إلا أن كابلوف، في سياق آخر، أشارإلى أن هناك حاجة لمفاوضات ذات مغزى أولاً. كما أن روسيا تسعى إلى إعادة أوزبكستان إلى المنظمة لكن الأخيرة أصدرت بياناً مفاجئاً لتأكيد موقفها بعدم العودة، ما يوحي بأن روسيا سعت فعلياً إلى ذلك.

أما بالنسبة لإيران، فقد توجهت الحركة إليها أيضاً لطمأنتها، إلا أن أغلب الترجيحات تشير إلى أن التنسيق قائم بين إيران وحكومة كابل في ضوء العلاقات بين الجانبين لاسيما الاقتصادية، وبموافقة أمريكية، كما أن هناك توقعات بشأن تنسيق إيراني- تركي بعد انخراط أنقرة في الترتيبات الأمنية الجديدة التي يجري العمل عليها في مرحلة ما بعد الانسحاب، إلا أن “طالبان” حذرت من هذه الخطوة، وبالتالي تتجه علاقاتها مع الطرفين إلى مزيد من التوتر على المدى المنظور.

ختاماً، تكشف القراءة الأولية لهذه التفاعلات أن “طالبان” تسعى إلى تحييد القوى الخارجية لمنعها من العودة إلى الانخراط على الساحة الأفغانية ودعم حكومة كابل قبل التوصل إلى تفاهمات بين الحركة وكابل وبين الحركة وتلك القوى تفرض فيها الأولى شروطها على الجميع، وبالتالي فإن عملية ملء الفراغ الناتج عن الانسحاب الأمريكي في أفغانستان ستشهد تطورات على مراحل مختلفة، ربما ستحكمها في المرحلة الأولى طبيعة تشكل موازين القوى في ظل معادلة الاشتباك الداخلية، وسيؤثر عليها في المرحلة الثانية تشكيل معادلات الاشتباك الخارجية، وسيتوقف ذلك على مدى صمود حكومة كابل إذا ما قررت مع “طالبان” المضي في مسار التصعيد، فعلى الأرجح ستشهد أفغانستان نموذجاً جديداً من حروب الوكالة في ظل مخاوف الأطراف من الانخراط المباشر في الحرب بالنظر إلى الدروس المستفادة من الحروب السابقة.