حديث المفاوضات! – الحائط العربي
حديث المفاوضات!

حديث المفاوضات!



كثر الحديث عن المفاوضات الروسية الأوكرانية وعما إذا كانت سوف تُفضى إلى وقف الحرب وخروج العالم من أزمته الحالية. ورغم أن التقدير للموقف العسكرى كثيرًا ما يعطى الانطباع حول فاعلية الأدوات العسكرية ومركزيتها فى إدارة الأزمات فإن المفاوضات فى الحقيقة لا تقل أهمية سواء كان ذلك من حيث تكاملها مع العمل العسكرى أو قيامها منفردة بتجاوزه. والواقع هو أن المفاوضات جزء من الحياة الإنسانية لأنها تجرى بشكل يومى حينما تكون هناك أطراف تتبادل المنفعة، وربما تريد تجنب الضرر. وأحيانًا فإن الإنسان يتفاوض مع نفسه، فيكافئها لمزيد من المتعة، أو يعاقبها بمزيد من العمل أو تحمل المسؤولية. هى قائمة بين الرجل وزوجته، وبينه وبين أبنائه، وما بين أركان الأسرة والعائلة وأحيانًا العائلات، وبعضها البعض. هى لا تجرى فقط بين الخصوم، وإنما كثيرًا ما تحدث بين الأنصار والأصدقاء والحلفاء. وهى تتضمن نوعًا من المساومة، وأحيانًا المقايضة، وفى كل الأحوال فإنها تتضمن أنواعًا من الحديث الذى فيه تسامح أحيانًا، وتهديد أحيانًا أخرى. وفيما بين الدول تتضمن عملية التفاوض رسائل مباشرة تحدد فيها المواقف والمواقع؛ ولكن الرسائل أيضًا قد تكون غير مباشرة، فيها علامات ونُذُر وإغراءات ومكافآت. المفاوضات باختصار هى حزمة من الأقوال والأفعال، والرسائل المكتوبة والشفوية، ولكن قلبها هو عملية التفاعل على مائدة يحاول فيها كل طرف أن يغير أو يعدل من موقف الطرف الآخر. والمفاوضات أحيانًا تكون فيها أطراف ثالثة لها مصلحة فى التوفيق بين طرفين، ولكنها تمارس الحياد أو شكلًا منه حتى تستطيع التأثير فى كل طرف. والمفاوضات التى تنجح هى المفاوضات التى لا يحتاجها أحد لأن الأطراف على اتفاق تام بالفعل، أو أنهم لا يصلون إلى أزمة فى العلاقات، فأكثر الأزمات نجاحًا هى التى ينجح الأطراف فى تلافيها بالفعل. أما إذا حدثت فإن هناك آليات للتعامل معها ومنعها من التصعيد.

ومع ذلك كله فإن تعبير «المفاوضات» محتكر لمواقف التنازع، فهى شائعة فى النقابات التى تتفاوض مع أصحاب العمل، كما أنها ذائعة بالطبع بين الدول. وذكرت كثيرًا فى المناخ العام إبان ما عُرف بالمفاوضات العربية الإسرائيلية؛ وجاء هذا الذكر أحيانًا من خصوم تسوية النزاع الذين يرونه صراع «وجود لا حدود»، ولا يوجد فيه ما هو قابل للقسمة والتوزيع. ومع ذلك فإن المفاوضات أنجبت عددًا من اتفاقيات السلام بين كل من مصر والأردن والإمارات والبحرين والسودان والمغرب فى ناحية وإسرائيل فى ناحية أخرى. ولكن فى ظروف أخرى فإن المفاوضات لم تؤدِّ إلى السلام وإنما إلى نوع من التسوية المؤقتة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وتكثر المفاوضات فى أعقاب الأزمات السياسية الكبرى مثل تلك التى أعقبت ما سمى الربيع العربى وأشهرها ما يجرى فى ليبيا والسودان بين أنواع مختلفة من الأطراف؛ وكثير منها يدور حول أمور من أصول إنشاء الدولة مثل وضع دستور كما هو الحال فى سوريا. وإذا ما كان الدستور موضوعًا بالفعل، فإن المفاوضات سوف تجرى حول تفسيره وتطبيقه على الأرض مثل الحال فى العراق، وهو المصاب بالشلل رغم وجود الدستور وأحكام من المحكمة العليا، وعاجز تمامًا عن اختيار رئيس الجمهورية وتشكيل الوزارة.

ونعود إلى نقطة البداية، وهى أن أشهر أنواع المفاوضات الآن وأكثرها دفعًا إلى الترقب هى التى تخص روسيا وأوكرانيا مباشرة، ولكنها من صميم عمل أطراف دولية أخرى. المباشر منها يجرى بين الدولتين فى ناحية، ومن خلال أطراف أخرى مثل تركيا وألمانيا وفرنسا من ناحية أخرى. هذه المفاوضات جرَت جنبًا إلى جنب مع استخدام الأدوات العسكرية، والتى بعد القتال لأكثر من شهر الآن فإن الخسائر فادحة، وأكثر من هذا فإن روسيا دفعت ثمن العقوبات الاقتصادية، أما أوكرانيا فقد خسرت ضحايا وأصولًا من كل نوع، وغادرها ما يقرب من أربعة ملايين من اللاجئين إلى الدول المجاورة، وحوالى تسعة ملايين باتوا من النازحين داخل الدولة. الآن فإن الطرفين يعيشان حالة من إعادة التقييم لأهدافهما الأولية، فلم تعد روسيا تريد احتلال العاصمة «كييف» وتغيير القيادة الأوكرانية، ولكنها تريد الأقاليم الناطقة بالروسية فى الجنوب الشرقى لأوكرانيا، مع حياد الدولة ورفضها وجود أسلحة أو قوات لحلف الأطلنطى على أراضيها. أوكرانيا الآن توافق على الحياد، ولكنها تريد ضمانات أمنية، وكذلك جلاء القوات الروسية، وفيما يخص إقليم «الدونباس» والقرم فإنه سوف يكون رهنًا للتفاوض مرة أخرى. ورغم ما يبدو من تراجع لدى الطرفين عن طموحاتهما الأولية، فإنهما الآن أقرب إلى الطرف الآخر من أى وقت مضى.

نقلا عن المصري اليوم