ارتدادات مزدوجة:
حدود تأثير الحرب الروسية – الأوكرانية على إيران

ارتدادات مزدوجة:

حدود تأثير الحرب الروسية – الأوكرانية على إيران



تمثلت أبرز انعكاسات الحرب الروسية – الأوكرانية على إيران خلال العام الأول من اندلاعها في تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية، واتساع نطاق الضغوط الداخلية التي تتعرض لها حكومة إبراهيم رئيسي، وارتباك المفاوضات النووية مع الدول الغربية، وانتقال تداعيات الحرب إلى المنطقة بعد أن أصبح الدعم الإيراني لروسيا متغيراً جديداً في معادلة الصراع بين إيران وإسرائيل.

موقع “دبلماسي إيران” (الدبلوماسية الإيرانية): 2023: عام الحرب واللا يقين

كانت إيران من أبرز دول العالم التي تأثرت بشكل مباشر بتداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية التي بدأت عامها الثاني في 25 فبراير 2023، وذلك لاعتبارات عديدة، أولها: أن الحرب اندلعت في وقت كانت إيران تعاني فيه من استمرار تأثيرات أزمة انتشار فيروس كوفيد-19 على نطاق واسع على أراضيها، وهو ما فرض ضغوطاً مضاعفة عليها. وثانيها: أن الحرب توازت مع استمرار العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، وركزت في المقام الأول على الصادرات النفطية الإيرانية والتعاملات التجارية بين إيران والأطراف الأخرى حول العالم. وثالثها: أنها اندلعت في وقت كانت المفاوضات التي تجري بين إيران والقوى الدولية -بمشاركة غير مباشرة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية- تواجه اختبارات صعبة أدت في النهاية إلى تعثرها في سبتمبر 2022، بعد رفض إيران المسودة التي طرحها مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل.

ويمكن تناول الارتدادات التي فرضتها الحرب الروسية-الأوكرانية على إيران خلال عامها الأول على النحو الآتي:

تأزم اقتصادي

1- تفاقم مضاعفات الأزمة الاقتصادية: بدأت الحرب في فترة كانت إيران تعاني خلالها من أزمة اقتصادية حادة، تعود في قسم منها إلى تأثيرات العقوبات الأمريكية، وفي قسمها الآخر إلى فشل الإجراءات التي اتخذتها الحكومات المتعاقبة في التعامل معها. وعلى غرار الدول الأخرى، واجهت إيران أزمة فيما يتعلق بالتضخم، خاصة ارتفاع أسعار الغذاء. فقد وصل معدل التضخم إلى نحو 50%. ورغم أن التضخم كان عالياً قبل الحرب، فإن اندلاعها تسبب في ارتفاع نسبته. وكان لذلك تأثير مباشر في انخفاض قيمة العملة الوطنية الإيرانية (الريال)، فقد سعى المواطنون إلى التخلص من الحفاظ على مدخراتهم عبر شراء الدولار أو العقارات أو الذهب.

ومن هنا، وصل الدولار، في 20 فبراير الجاري، إلى أكثر من 500 ألف ريال، وقد كان انهيار قيمة العملة الوطنية سبباً في الإطاحة بمحافظ البنك المركزي الإيراني السابق علي صالح آبادي، الذي قدم استقالته في 30 ديسمبر 2022، حيث عين مكانه محمد رضا فرزين الذي كان يتولى قبل ذلك رئاسة بنك “ملي” (البنك الوطني).

ضغط داخلي

2- تصاعد الضغوط الداخلية على حكومة رئيسي: تسلم الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي مقاليد منصبه من الرئيس السابق حسن روحاني، في وقت كانت إيران تتعرض فيه لأزمة انتشار فيروس كوفيد-19، وما فرضته من تداعيات اقتصادية صعبة. وجاءت الحرب لتوسع من نطاق الضغوط الاقتصادية التي تتعرض لها إيران. وإذا كان الرئيس رئيسي ووزراء حكومته قد حاولوا في البداية إلقاء المسؤولية عن تفاقم الأوضاع الاقتصادية في الداخل على عاتق الحكومة السابقة، فإنهم لم يتمكنوا من تبني الآلية نفسها بعد تصاعد حدة تلك الأوضاع في أعقاب اندلاع الحرب. ومن هنا، تعرضت الحكومة لانتقادات قوية من الداخل، حتى من جانب المؤسسات التي يسيطر عليها تيار المحافظين الأصوليين، خاصة في ظل استمرار ما يمكن تسميته بـ”صراع الأجنحة” داخل هذا التيار خلال الفترة الأخيرة.

واستغلت تلك الأطراف انتهاء العام الأول من فترة رئاسة رئيسي، في أغسطس 2022، لإجراء عملية “جردة حساب” لأداء الحكومة على كافة الأصعدة، لا سيما التعامل مع الأزمة الاقتصادية، حيث أشارت إلى أن هناك وعوداً عديدة أعلنها الرئيس قبل توليه منصبه ولم يستطع تنفيذها، خاصة فيما يتعلق ببناء مليون وحدة سكنية سنوياً. وقد انعكست الضغوط التي تعرضت لها الحكومة في اضطرار وزير العمل حجت عبد الملكي إلى تقديم استقالته في 14 يونيو 2022، وقبل إتمام الحكومة عامها الأول في السلطة.

كما أن إقدام الحكومة، في 3 مايو 2022، على رفع الدعم عن بعض السلع الغذائية -وهو أحد تداعيات تأثيرات الحرب على أسعار الغذاء- تسبب في تصاعد حدة الانتقادات التي تتعرض لها، بالتوازي مع اندلاع احتجاجات في الشهر نفسه اعتراضاً على زيادة أسعار السلع الغذائية، وهو ما يمكن القول معه إن هذه الاحتجاجات كانت مقدمة للاحتجاجات الأوسع التي اندلعت في 15 سبتمبر 2022، بعد الإعلان عن وفاة الفتاة الكردية العشرينية مهسا أميني عقب توقيفها من قبل شرطة الأخلاق بتهمة عدم الالتزام بقواعد ارتداء الحجاب.

إذ إن وفاة مهسا أميني كانت العنوان الأبرز لتلك الاحتجاجات، إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة أسباباً عديدة كان لها دور في تأجيجها، يأتي في مقدمتها ارتفاع معدل التضخم وانهيار العملة الوطنية ووصول معدل البطالة إلى 12%.

عرقلة المفاوضات

3- ارتباك المفاوضات النووية بين إيران والقوى الدولية: تسببت الحرب في حدوث ارتباك شديد في المفاوضات التي أجريت بين إيران والقوى الدولية، والتي شاركت فيها الولايات المتحدة الأمريكية بشكل غير مباشر. ففي أعقاب اندلاع الحرب، حاولت روسيا استغلال دورها في المفاوضات لتعزيز موقعها في مواجهة الضغوط والعقوبات التي فرضتها الدول الغربية عليها. فبعد مرور نحو عشرة أيام من الحرب، طالبت روسيا، في 5 مارس 2022، بالحصول على ضمانات بعد تأثر دورها في الاتفاق النووي بالعقوبات الغربية المفروضة بسبب الحرب الأوكرانية. وقد اعتبرت الولايات المتحدة الأمريكية هذا الطلب محاولة من جانب روسيا لعرقلة المفاوضات النووية وابتزاز القوى المشاركة من أجل الحصول على مكاسب وتعزيز موقعها في إدارة العمليات العسكرية في أوكرانيا ومواجهة العقوبات الغربية. ثم أعلن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، في 15 من الشهر نفسه، أن موسكو تلقت ضمانات أمريكية مكتوبة بشأن الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أيضاً أن اندلاع الحرب دفع إيران إلى تبني مقاربة أخرى، تمثلت في محاولة استغلالها لممارسة ضغوط أقوى على الدول الغربية في المفاوضات النووية والحصول على مزيد من التنازلات من جانبها، لا سيما فيما يتعلق بالحصول على ضمانات أمريكية بعدم الانسحاب مجدداً من الاتفاق النووي، ورفع اسم الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية الخاصة بوزارة الخارجية الأمريكية.

ويبدو أن إيران استندت في هذا السياق إلى تصورات عديدة، منها أن اندلاع الحرب وما سوف تفرضه من تداعيات اقتصادية خاصة بأزمة الطاقة سوف يضعف موقف الدول الغربية في مواجهتها، وسيفرض ضغوطاً على تلك الدول قد تدفعها إلى تغيير موقفها باتجاه إبداء مرونة أكبر إزاء شروط ومطالب إيران للوصول إلى صفقة نووية جديدة.

وبدأت إيران في هذه الفترة في الترويج إلى إمكانية أن تمثل بديلاً تستطيع الدول العربية الاستناد إليه لمواجهة أزمة الطاقة نتيجة تراجع ثم انقطاع الإمدادات الروسية. ففي 22 فبراير 2022، وقبل اندلاع الحرب بيومين، قال وزير النفط الإيراني جواد أوجي: “إن إيران قادرة على تصدير الغاز إلى دول الجوار والدول الأوروبية”. وفي 15 مايو من العام نفسه، قال نائب وزير النفط الإيراني مجيد تشغني: “إن إيران تدرس تصدير الغاز إلى الدول الأوروبية، لكننا لم نتوصل إلى نتيجة بعد”، مضيفاً أن: “إيران تسعى دائماً لتطوير دبلوماسية الطاقة وتوسيع السوق”.

لكن الدول الأوروبية لم تتجاوب مع هذه الرسائل الإيرانية، وذلك لاعتبارات ثلاثة رئيسية، أولها: أن إيران لن تستطيع بسهولة أن تتحول إلى مصدر للطاقة إلى الدول الأوروبية، أو بمعنى أدق الحلول محل روسيا بوصفها مصدراً للطاقة، خاصة أن البنية التحتية الإيرانية متهالكة، وفي حاجة إلى موارد مالية ضخمة من أجل إعادة تأهيلها وتطويرها بسبب العقوبات الأمريكية.

وثانيها: أن الخلافات العالقة بين الطرفين اتسعت على نحو كبير، بسبب السياسة المتشددة من جانب إيران إزاء القضايا الخاصة بالاتفاق النووي، فضلاً عن التمدد الإقليمي الإيراني في المنطقة، ثم جاء بعد ذلك الدعم العسكري الإيراني لروسيا في الحرب الأوكرانية.

وثالثها: التهديدات الإيرانية المتواصلة بإمكانية إغلاق مضيق هرمز، وهو أحد الممرات الرئيسية للطاقة إلى الأسواق العالمية، وهي التهديدات التي دفعت الدول الأوروبية إلى التريث في دراسة هذا الخيار، خاصة أن ذلك يمكن أن يعرضها لابتزاز وضغوط من جانب إيران، التي يمكن أن تستخدم هذه التهديدات لفرض ضغوط عليها من أجل تعزيز موقعها في إدارة الخلافات العالقة بين الطرفين. وعوضاً عن ذلك، اتجهت الدول الأوروبية، مثل إيطاليا وألمانيا وفرنسا، إلى إبرام صفقات طاقة مع دول أخرى في المنطقة، على غرار ليبيا والعراق والجزائر وسلطنة عُمان.

تورط فعلي

4- الانخراط المباشر في الحرب الروسية الأوكرانية: تحولت إيران إلى طرف مباشر منخرط في الحرب الروسية-الأوكرانية. فرغم أنها في بداية الحرب حاولت الظهور في صورة الطرف المحايد، فإنها تدريجياً بدأت في الاتجاه نحو دعم الموقف الروسي، وسرعان ما تحول هذا الدعم إلى تقديم مساعدات عسكرية ممثلة في الطائرات من دون طيار، خاصة من طراز “شاهد 136″، التي استخدمتها روسيا في استهداف البنية التحتية الأوكرانية بشكل كبير خلال المرحلة الماضية.

وقد أنتج ذلك ثلاثة تداعيات رئيسية، أولها: أنه دفع الدول الغربية إلى فرض عقوبات على مؤسسات عديدة في إيران وشركات اتهمتها تلك الدول بمساعدة إيران في تطوير المسيرات. وقد أعلن الاتحاد الأوروبي، في 15 فبراير 2023، أنه سوف يفرض عقوبات على إيران بسبب الدعم العسكري الذي تقدمه إلى روسيا.

وثانيها: أنه ساهم في تصعيد حدة الخلافات العالقة بين إيران والدول الغربية حول الاتفاق النووي، وأضعف من إمكانية الوصول إلى صفقة نووية جديدة، خاصة بعد أن تعثرت المفاوضات التي أجريت بين الطرفين وتوقفت في سبتمبر 2022. وقد بدا ذلك جلياً في التصريحات التي أدلى بها الرئيس الأمريكي جو بايدن في 4 نوفمبر 2022، وكشف عنها في 21 ديسمبر من العام نفسه، والتي قال فيها إن “الاتفاق النووي مات”، مضيفاً: “لكننا لن نعلن ذلك”. وإن كان ذلك لا ينفي أن الدول الغربية ما زالت تُعوِّل على إمكانية إبرام صفقة حتى لو كان احتمال ذلك ضئيلاً.

وثالثها: أنه نقل التصعيد العالمي حول الحرب الأوكرانية إلى المنطقة، بعد أن دخل الدعم العسكري الإيراني إلى روسيا بوصفه متغيراً جديداً في معادلة الصراع بين إيران وإسرائيل. وقد انعكس ذلك بشكل واضح في ردود الفعل التي أثيرت فيما بعد استهداف منشأة عسكرية تابعة لوزارة الدفاع الإيرانية في أصفهان، في 29 يناير 2023. فرغم أن إسرائيل لم تعلن صراحة أنها المسؤولة عن الهجوم، فإن إيران وجهت إليها اتهامات في هذا الصدد.

وبالطبع، فإن جزءاً من التصعيد الإيراني-الإسرائيلي في هذا التوقيت يرتبط بقرب حصول إيران على صفقة مقاتلات روسية من طراز “سوخوى-35″، على نحو ترى تل أبيب أنه سيتحول إلى متغير مهم في موازين القوى بين الطرفين خلال المرحلة القادمة.

لكن اللافت في هذا السياق، هو انخراط أوكرانيا في هذا الجدل، بعد أن قال مستشار الرئيس الأوكراني ميخايلو بودولاك إن “منطق الحرب مميت ولا يُطاق، ويجبر أمير الحرب والمتواطئين معه على التعويض”، مضيفاً أن “الانفجار سبق أن حذرت أوكرانيا بشأنه”. وقد دفع ذلك إيران إلى انتقاد تلك التصريحات، وتوجيه تحذيرات من أن أوكرانيا قد تواجه عواقب في حالة ثبوت تورطها في الهجوم.

على ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن الحرب الروسية-الأوكرانية فرضت ارتدادات مباشرة على إيران، على المستويين الداخلي والخارجي، ويبدو أن هذه الارتدادات سوف تتواصل خلال العام الثاني للحرب، سواء بسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية الداخلية واستمرار تأثرها بالأزمة العالمية، أو بسبب إصرار إيران على تقديم مزيد من الدعم العسكري لروسيا لمساعدتها في إدارة عملياتها العسكرية داخل أوكرانيا في خلال المرحلة القادمة، وهو توجه لا يبدو أن إيران سوف تتراجع عنه بسهولة.