حتمية صراع القيم – الحائط العربي
حتمية صراع القيم

حتمية صراع القيم



فى العقود الأخيرة، وربما منذ نهاية الحرب الباردة، ركزت الدراسات السياسية على مفهوم المصالح المادية كمفسر للعلاقات بين الدول وللسلوك السياسى للمواطن داخل بلده، مثل تفضيلاته التصويتية فى الانتخابات، وشاعت مقولة إن جيب المواطن هو المحدد الرئيسى لسلوكه الانتخابى.

أحد أسباب تبنى التفسيرات السابقة، يعود الى انتصار الغرب الرأسمالى على الشيوعية السوفيتية فى الحرب الباردة، وتصاعد نغمة نهاية التاريخ، وأن القيم الليبرالية أصبحت المسيطرة على العالم ولا يوجد منافس لها، وبالتالى انتفاء صراع القيم. وصاحب ذلك أيضا تصاعد موجة العولمة، وارتباطها بالاعتماد على الاقتصاد المتبادل بين الدول والقائم على مشاركة المنافع المادية، والاعتقاد بأن قوى العولمة مثل الانترنت وثورة الاتصالات سوف تدفع فى اتجاه عولمة القيم.

العديد من الأسس والافتراضات السابقة سقط، أو على الاقل أصبح محل مراجعة داخل الدول وفى العلاقات بينها. فالعديد من الدول أصبحت تشاهد صعودا لدور القيم فى الحياة السياسية، واستقطابا داخليا حول قضايا تتعلق بالقيم، كما تزايد دور القيم كمحدد للسلوك الانتخابى للمواطن. على سبيل المثال فإن تصويت البريطانيين بشأن الخروج من الاتحاد الأوروبى شهد استقطابا بين أنصار قيم العولمة الاوروبية وأنصار قيم الوطنية البريطانية. ويشهد الاتحاد الأوروبى حاليا جدلا حول مدى التزام عدد من أعضائه الجدد وخاصة فى أوروبا الشرقية بما يسمى بالقيم الأوروبية.

كما تشهد الحياة السياسية فى الولايات المتحدة الامريكية استقطابا يزداد اتساعه بين أنصار القيم الليبرالية وأنصار القيم المحافظة حول العديد من القضايا المهمة مثل مفهوم الهوية الامريكية، ومدى استنادها على الانصهار أم التنوع. بالإضافة لقضايا أخرى مثل حق حمل السلاح، وحق المرأة فى الإجهاض، وحق الصلوات فى المدارس.. وغيرها. ونظرا للبعد القيمى الكبير فى هذه القضايا وتصاعد الصراع بشأنها، أصبح البعض يطلق عليها تسمية الحروب الثقافية.

أما الصراع حول القيم على الساحة الدولية فسوف يكون طرفها الولايات المتحدة والصين، وهو بالتأكيد صراع حتمى. وبالرغم من أن الصين لا تدعى أنها تسعى الى نشر منظومة قيمها خارج بلادها، فإن صراعها القيمى مع الولايات المتحدة والغرب بصفة عامة، يدور حول فكرة عالمية القيم.

فالولايات المتحدة تتبنى فكرة ان القيم التى نشأت وتطورت فى الغرب، خاصة تلك المتعلقة بحقوق الانسان وأولويات هذه الحقوق، هى قيم عالمية وليست قيما غربية، وبالتالى يجب نشرها فى العالم كله، وأن تصبح هى المقياس الدولى لتحديد مدى التقدم والتراجع فى هذه المجالات.

الصين ومعها روسيا ترفضان فكرة عالمية القيم الغربية، وترى كل منهما ان لها حضارتها الخاصة التى انبثق عنها مجموعة من القيم قد تختلف فى مضمونها وأولوياتها عن القيم الغربية، وبالتالى ترفضان فكرة التعامل مع القيم الغربية على أنها ذات طابع عالمى يجب أن يتبناه الجميع. وتزعم روسيا ان ترويج الغرب لعالمية قيمه قد ساهم بشكل كبير فى انهيار الاتحاد السوفيتى.

اما الصين، فالموضوع لديها ليس وليد التوترات الحديثة فى علاقتها بالولايات المتحدة، بل انه فى عام ٢٠١٣، قام الحزب الشيوعى الصينى بإصدار ما يعرف بالوثيقة رقم ٩، والتى تحدثت عن المخاطر الأيديولوجية التى تواجه الدولة الصينية، وجاء فيها أن نشر القيم العالمية هو محاولة لإضعاف الأسس النظرية لقيادة الحزب الشيوعى الصينى.. وأن الهدف من تبنى القيم العالمية هو الادعاء بأن نظام القيم الغربى يتحدى الزمان والمكان، ويتجاوز الأمة والطبقة، وينطبق على البشرية جمعاء، وأن الحرية الغربية والديمقراطية وحقوق الإنسان عالمية وأبدية. وأن قيم الغرب هى المعيار السائد لجميع الحضارات الإنسانية، وأنه فقط عندما تقبل الصين القيم الغربية سيكون لها مستقبل، وأن الإصلاح والانفتاح يجب أن يكون مجرد عملية قبول تدريجى للحقوق العالمية.

وتشير الوثيقة الى أن هذه الحجج مربكة ومضللة، وأن الهدف من مثل هذه الشعارات هو إخفاء الاختلافات الجوهرية بين نظام القيم فى الغرب ونظم القيم المختلفة عنه، واستخدام نظام القيم الغربية لتحل محل القيم الأساسية الموجودة بالمجتمعات الاخرى. وفى هذا الإطار، ووفقا للوثيقة، قام الغرب بتشويه تعزيز الحزب الشيوعى الصينى للحرية، والمساواة، والعدالة، وسيادة القانون، وغيرها من القيم المماثلة، وأضافت الوثيقة أن تعزيز عالمية القيم الغربية هو محاولة لتقويض القيادة الحالية فى الصين، والاشتراكية ذات الخصائص الصينية لنظام الحكم.

ودعت الوثيقة جميع مستويات الحزب والحكومة الى التنبه جيدا للمخاطر الأيديولوجية، وأشارت الى أن التجربة التاريخية أثبتت أن الإخفاقات فى المجال الاقتصادى يمكن أن تؤدى إلى اضطراب كبير، وأن الفشل فى المجال الأيديولوجى يمكن أن يؤدى أيضًا إلى اضطرابات كبيرة، ويجب أن يدرك أعضاء الحزب والحكومة أن النضالات فى المجال الأيديولوجى دائمة ومعقدة، ويجب تقوية القيادة فى المجال الأيديولوجى، وجعل العمل فى المجال الأيديولوجى أولوية فى جدول الاعمال اليومى للقيادات المختلفة.

باختصار، الولايات المتحدة تعود بشدة لتبنى مفهوم عالمية القيم، وتستخدمه كسلاح فى مواجهتها للصعود الصينى. والصين ترفض فكرة عالمية القيم الغربية، وترى ان الهدف منها هو تقويض التجربة والقيادة الصينية. وخلاصة الامر أن العالم يشهد عودة القيم كإحدى قضايا الخلاف بين القوى الكبرى، وعودة الجدل حول مدى عالمية أو نسبية هذه القيم، وأن ترويج الولايات المتحدة لفكرة العالمية ورفض الصين لها، وتمسك كل طرف بوجهة نظره سيؤدى الى حتمية صراع القيم بينهما، وسيكون لهذا الصراع صدى فى العديد من دول العالم.

نقلا عن الأهرام