أعلن المبعوث الأممي إلى سوريا، جير بيدرسون، عن جولة جديدة من أعمال اللجنة الدستورية، في 18 من الشهر الجاري، معرباً عن تفاؤله بدفع هذه العملية إلى الأمام، وذلك بعد أن أعلنت دمشق موافقتها، وتأتي هذه الجولة الجديدة من اجتماعات اللجنة الدستورية بعد لقاءات أمريكية روسية، يبدو أنها توافقت على إعادة إطلاق مسار كتابة الدستور وفق القرار الأممي 2254، على أمل أن تشكّل عملية كتابة دستور جديد للبلاد مدخلاً للحل السياسي السوري المستعصي منذ سنوات، وهو ما يجعل من الطبيعي بمكان قراءة تناقضات الحلّ السياسي في سوريا، وفقاً لقراءة مطابقة للواقع في جوانبه الأساسية.
تنطلق رؤية الحكومة السورية إلى الحلّ السياسي من نتائج الانتصارات العسكرية التي حقّقتها خلال السنوات الثلاث الماضية، والتي تجعلها، غير مضطرة إلى تقديم تنازلات سياسية كبيرة للمعارضة السياسية، فهي في السنوات التي تراجعت فيها قدراتها العسكرية لم تقدم تنازلات، فما الذي يدفعها الآن إلى تقديمها؟
استناداً إلى هذه الرؤية السياسية، فإن التنازلات الممكنة من قبل دمشق، لن تكون تنازلات جوهرية- هذا إذا افترضنا أن العملية الدستورية مضت في طريقها من دون صعوبات كبيرة- لكن حتى هذا الافتراض يبقى نظرياً إلى حدّ بعيد، فالجغرافيا السورية اليوم مقسّمة إلى خمس مناطق نفوذ، تشكل المدن التي تسيطر عليها الحكومة واحدة منها، بينما تسيطر قوات وفصائل غير حكومية على المناطق الأخرى، ومعظمها غير ممثل في اللجنة الدستورية، وفي مقدمتها الإدارة الذاتية في الجزيرة السورية، ما يجعل من أي دستور جديد ناقصاً من الناحية التمثيلية.
مشكلات مناطق النفوذ في الجغرافيا السورية ليست داخلية وحسب، بل بالدرجة الأولى هي مشكلات تنبع من القوى الخارجية الداعمة لكل منطقة نفوذ؛ حيث إن خطوط التماس بين سلطات الأمر الواقع هي في الحقيقة خطوط تماس بين القوات الأجنبية الموجودة في الميدان السوري، ففي مناطق شمال شرق سوريا، هناك خطّ تماس بين القوات الأمريكية والقوات الروسية، وفي الشمال الغربي، هناك خطّ تماس بين القوات التركية والقوات الروسية، وفي الحدود العراقية هناك وجود للقوات الإيرانية، وهو ما يجعل القرار السوري موزّعاً بين عدد من القوى الخارجية، بينما تستمد القوى الداخلية الكثير من مشروعيتها من دعم هذه الدولة أو تلك لها.
في الشهرين الأخيرين، أوردت بعض المصادر، بما فيها مصادر حكومية سورية، عن موجة هجرة جديدة من مناطق تعدّ آمنة، من مثل دمشق وحلب والساحل السوري، فقد صرّحت دائرة الهجرة والجوازات السورية عن وجود عجز في تلبية طلبات الراغبين بالحصول على وثيقة سفر، كما شهدت الآونة الأخيرة هجرة كبيرة من التجّار والصناعيين إلى الخارج، بعد تردّي مقومات العمل الصناعي على وجه التحديد، ونقص إمدادات الطاقة، ما يجعل من العمل الصناعي خاسراً.
الدول القادرة على تأمين أموال عملية إعادة الإعمار في سوريا، تربط عملية التمويل بتحقيق عملية سياسية، تمتلك شروط الاستدامة، لكن من الناحية العملية فإن تحقيق شروط الاستدامة غير ممكن من دون أن يحظى الحلّ السياسي بموافقة واتفاق الدول المنخرطة في الصراع السوري، ومن الواضح عملياً أن مثل هذا التوافق غير ممكن ضمن الأوضاع الراهنة، فالتناقضات التي تحكم مصالح الأطراف الخارجية ستبقى عامل عرقلة للحلّ السياسي.
أطراف الصراع الداخلية، ما زالت متمسكة بالحلّ السياسي نظرياً، لكن الهوّة بين هذه الأطراف كبيرة، كما أن لكل طرف رهاناته الخاصّة، بالإضافة إلى أن معظم هذه الأطراف لديها إمكانات تنظيمية وعسكرية، ما يجعل قبولها بحل سياسي لا يلبي مصالحها أمراً مستحيلاً، الأمر الذي يعني من الناحية العملية أن الهدوء القائم بين خطوط التماس قابل للانفجار في أي لحظة، كما أن بعض سلطات الأمر الواقع حقّقت بعض الأشكال التنظيمية والإدارية، وهي تريد أن يفضي أي حل سياسي مقبل إلى إبقاء سيطرتها الإدارية والمالية والعسكرية في مناطق نفوذها.
تناقضات الواقع السوري، تضع الكثير من العقبات البنيوية أمام الحلّ السياسي، خصوصاً المسار الدستوري، الذي يبدو أنه محاولة أممية من أجل ملء الوقت، بانتظار أن تنضج شروط الاتفاقات والتوافقات الإقليمية والدولية، الأمر الذي يعني زيادة الاهتراء في مجمل الأوضاع الداخلية، وزيادة تكريس نفوذ سلطات الأمر الواقع.
نقلا عن الخليج