قيود متعددة:
تقييم القدرة التركية على تطوير الصناعات العسكرية

قيود متعددة:

تقييم القدرة التركية على تطوير الصناعات العسكرية



تُعد “الصناعات العسكرية” منتجًا نوعيًا، ينعكس علي الدبلوماسية الاقتصادية للدولة، كدلالة على المساحات المشتركة بين السياسة الخارجية والاقتصاد، بل وتشكل محور تماس بين توجهات السياسة الخارجية وتوظيف القدرات العسكرية، فيما بات يُعرف بعسكرة السياسة الخارجية.

ربما يعكس هذا المنظور مدخلًا ملائمًا لتحليل قاعدة الصناعات العسكرية التركية، في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية الراهنة، والتي تعطي أولوية لمؤسسة الإنتاج العسكري. ففي عام 2018، أصدر الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” قرارًا رئاسيًا بتحويل “الأمانة الفرعية لصناعات الدفاع” إلى “رئاسة الصناعات الدفاعية” (SSB) لتتبع الرئاسة مباشرة. وفي هذا الإطار، ثمة تساؤلات رئيسية حول مسار تطور الصناعات العسكرية التركية، والإشكاليات التي تواجهها هذه الصناعات.

مؤشرات رئيسية

تمكنت تركيا -بشكل لافت- من بناء قاعدة صناعية عسكرية ضخمة على مدار العقدين الماضيين، وهو ما تعكسه تقارير التسلح الدولي، بالنظر إلى مؤشرات عديدة، منها مؤشر نمو الصادرات العسكرية، فقد قفزت عوائد الصادرات الصناعية التركية خمسة أضعاف القيمة الإجمالية لها بين عامي 2000-2020، وارتفع معدل برامج صناعات الدفاع من 62–700 برنامج في الفترة ما بين عامي (2002-2020)، وذلك بالتوازي مع ارتفاع معدل عدد شركات الدفاع والفضاء من 56 – 1500، ليتحرك مؤشر قيمة تلك البرامج من حوالي 5.5 مليارات دولار إلى 75 مليار دولار تقريبًا، محققًا قفزة في الصادرات من 248 مليون دولار لتتجاوز 3 مليارات دولار.

وعلى مؤشر التنافسية العالمي للصناعات الدفاعية أدرجت قائمة Top 100)) سبع شركات تركية هي: (Aselsan – Turkish Aerospace – BMC – Roketsan – STM – FNSS – Havelsan) وفق تقارير عام 2020، بزيادة شركتين أُضيفتا للقائمة، مقارنة بالعام السابق عليها. كما أصبحت تركيا تحتل المرتبة 14 على قائمة مبيعات السلاح العالمية، بإجمالي 1% من مبيعات أسواق السلاح.

وتجاوزت تركيا منعطف التراجع بمقدار 16.8% في المبيعات العسكرية التي شهدها عام 2020 مقارنة بالعام الذي سبقه، في ظل الانكماش الذي شهدته أسواق السلاح العالمية بسبب جائحة كورونا، وأثر الركود الاقتصادي التركي بشكل عام؛ فمؤشرات الربع الأول من عام 2021 أظهرت حالة تعافي اقتصاديات التسليح التركي وفقًا لبيانات جمعية المصدرين الأتراك (TIM)، حيث زادت صادرات صناعة الدفاع والفضاء بنسبة 3.7٪ خلال شهر يناير 2021، وفي فبراير الماضي بلغت 34.1٪، و74.6٪ في مارس، و47.8٪ في أبريل.

قضايا إشكالية

بالرغم من مؤشرات التطور في الصناعات العسكرية التركية، فإن ثمة قضايا إشكالية تواجه هذه الصناعات، وربما تمثل قيدًا على مسار تطورها، وتتمثل أهم هذه القضايا فيما يلي:

1- التراجع الاقتصادي: إذ يسود انطباع متشائم حول حالة الاقتصاد التركي في ظل تهاوي قيمة الليرة التركية، وهو انطباع حقيقي وفقًا لحسابات الاقتصاد الكلي. صحيح أن الحسابات الخاصة بالصادرات العسكرية قد تخالف هذا الانطباع؛ بل يمكن القول إن زيادة الصادرات قد تحد من الانهيار المتسارع، بالنظر لفائض الفارق بين تراجع قيمة الكلفة المحلية في التصنيع وعائد قيمة الصادرات؛ إلا أن ذلك يتطلب أن يكون المنتج المحلي هو الغالب على المنتج الذي يتم تصديره، لأن الاعتماد على مكونات خارجية سيقلص هذا الفارق. ويقدر المحللون الاقتصاديون أن أنقرة بحاجة إلى “خطة إنقاذ” اقتصادية عاجلة حتى لا تفقد السيطرة على هذه التوازنات الحرجة، وهو ما يفسر مساعي الإدارة التركية إلى محاولة خفض التصعيد في مناطق الصراعات، وإبداء مرونة في الأزمات التي خلقتها في محيطها الخارجي.

2- العقوبات الأمريكية: فالولايات المتحدة تحاول الضغط على أنقرة من خلال فرض العقوبات على تركيا بسبب توجهات سياساتها الخارجية، لا سيما انخراطها العسكري في مناطق الصراعات والأزمات الإقليمية مثل (سوريا، العراق، ليبيا، أذربيجان)، أو على خلفية الحصول على صفقات مثل S-400 الروسية، ومساعيها للحصول على المقاتلة Su-35 الروسية أيضًا.

بيد أن هناك جدلًا واسعًا حول هذه المسألة، ففيما يتعلق بالسياسة الخارجية، من الممكن القول إنه يمكن تفسير السياسة الخارجية التركية بأنها لا تغرد خارج السرب بالمطلق. ففي العراق هناك أجندتان، واحدة تتعلق بتنامي التصعيد في مواجهة حزب العمال الكردستاني، ربما انعكست على العلاقات الثنائية بين بغداد وأنقرة، لكن -في المقابل- هناك إشادة من حلف شمال الأطلنطي (الناتو) بالدور التركي في الحرب على داعش في سوريا والعراق. كذلك، هناك نقاط خلافية في الملفين السوري والليبي، بين أنقرة والقوى الأوروبية والولايات المتحدة، وإن كانت هناك نقاط إيجابية محسوبة لتركيا في إطار تحقيق التوازن مقابل الوجود الروسي.

3- تكنولوجيا المحركات والأنظمة بعيدة المدى: إحدى نقاط الضعف الرئيسية في الصناعات العسكرية التركية هي الافتقار إلى تكنولوجيا المحركات، فعلى الرغم من أن العقوبات الأمريكية على تركيا لم تفرض قيودًا مباشرة على قاعدة التصنيع العسكري، لكن يمكن تقفي أثرها في احتياجها لبعض الواردات الاستراتيجية التي تدخل في عملية التصنيع، والتي يصعب إنتاجها بالسوق المحلية. فعلى سبيل المثال، علقت واشنطن عقود تصدير محركات (CTS-800A)، مما قد يعرض الصناعات العسكرية التركية لخسارة ثلث قيمتها التصديرية، ويبدو أن أول انعكاسات هذه الخسائر ظهرت في عدم إنجاز عقد 30 مروحية هجومية تركية من طراز (T129s- 30) لباكستان وقعت في 2018، بقيمة 1.5 مليار دولار. وقبل ذلك في عام 2010، كان هناك برنامج محلي طموح يهدف إلى إنتاج طائرة TF-X، لكنه توقف بعد خمس سنوات بسبب عدم القدرة على إنتاج المحرك. وفي برنامج الإنتاج الخاص بالسفينة الهجومية البرمائية TCG Anadolu المرخص من شركة Navantia الإسبانية، احتاجت أنقرة إلى استيراد ما يزيد على 40% من مكوناتها.

على التوازي خلال الفترة نفسها، أخفقت تركيا في مجال صناعة أنظمة الدفاع الجوي بعيدة المدى. ومع فشلها في الحصول على منظومة باتريوت الأمريكية، اضطرت إلى الحصول على المنظومة الروسية S-400، في مارس من العام الجاري. وحاولت تركيا تغيير هذا الانطباع بشكل نسبي، مع الإعلان عن نجاح اختبار المنظومة متوسطة المدى (Hisar-O+ medium-range air defense system) وهي إنتاج مشترك بين شركتي Aselsan – Roketsan، ولا تزال هذه المنظومة في المرحلة التجريبية، ولم تُختبر بعد في الميدان بشكل فعلي، إضافة إلى أنه خلال الاختبار التجريبي أشار “إسماعيل دمير” رئيس رئاسة الصناعات الدفاعية (SSB) إلى أن هناك اتجاهًا لتشغيل منظومة متعددة الطبقات، وبما أن تركيا تمتلك هذه المنظومة المتوسطة، بالإضافة إلى قصيرة المدى Hisar-A من العائلة نفسها، فستضاف منظومة s-400 بعيدة المدى، وهكذا يبدو أنه لا يوجد مشروع حالي لإنتاج الأنظمة بعيدة المدى.

كذلك فإن الميزة التفضيلية التي سعت إليها تركيا في إطار العلاقة مع روسيا في أعقاب إنجاز صفقة S-400، تتجلى في الجدولة المريحة لسداد قيمة المنظومة، بالإضافة إلى المشاركة في عملية التصنيع مستقبلًا، وهو ما دفع أنقرة لاحقًا إلى خوض مباحثات لإبرام صفقة لمقاتلات Su-35 الروسية؛ إلا أن التقديرات تعكس تراجعًا في مستقبل هذه العلاقة، وأحد المؤشرات التي استندت إليها هذه التقديرات حالة التشنج التي ظهرت على الجانبين خلال التجربة الأولى لتشغيل منظومة S-400، تلاها الموقف التركي في الحرب في أذربيجان مقابل أرمينيا، وامتدت حالة التشنج أيضًا إلى الساحة الليبية، وبالتالي فإن رهان تركيا على البديل الروسي لم يكن بالشكل المتوقع، بل إن آثاره كانت واضحة سواء في تعليق عقود صادرات المحركات، أو خروج تركيا من كارتل (Joint Strike Fighter) لتصنيع F-35.

4- معضلة النموذج الإيراني: بمعنى هل يمكن أن تسير تركيا على خُطى النموذج الإيراني وتتحمل المزيد من العقوبات؟. من الجائز القول إن هناك قواسم مشتركة بين الطرفين، فقد شكّلت العقوبات دافعًا لكل منهما لتطوير الصناعات العسكرية المحلية، وينخرط الطرفان في صراعات إقليمية منحتهما ميزة إضافية في التجارب الميدانية للأسلحة، وكلاهما كان له أثره في إحداث تغير ملموس في أنماط المعارك، مع التركيز على دور الطائرات دون طيار. كما أن كلًّا منهما شريك لروسيا. لكن -في المقابل- لا يُعتقد أن تركيا (العضو البارز في الناتو) يمكن أن تغامر إلى درجة كبيرة بالتغريد خارج السرب، على نحو ما سبقت الإشارة. في المقابل، سيتعين عليها تقديم تنازلات مهمة لكي تستمر في تطوير القدرات العسكرية، وستظل العلاقة مع الولايات المتحدة هي المؤشر الحاسم في هذه العلاقة. لكن في المقابل لا يمكن أن تغامر أيضًا بالانقلاب على العلاقة مع روسيا بشكل سريع.

في الأخير، يمكن القول إن تركيا أحرزت تقدمًا ملموسًا في الصناعات العسكرية، وأصبحت لديها قاعدة إنتاجية متميزة، وبنية تحتية ملائمة لعملية التطوير في مجال التسليح. وبشكل عام، لديها قدرات تنافسية، لكن أيضًا هناك نقاط ضعف قاتلة قادرة على عرقلة مسار التقدم، إن لم تعدها إلى الوراء لسنوات، في ظل قفزات التقدم التكنولوجي، مع ملاحظة أنه لا يمكن الوصول بمنتج كامل بنسبة 100% في الصناعات العسكرية، فيمكن المجادلة أنه من الصعوبة بمكان الوصول إلى منتج محلي عسكري دون الحاجة إلى الشراكات العسكرية مع أطراف أخرى، كذلك فإن السياسة الخارجية المضطربة والمتوترة تحمل التصنيع العسكري كلفة صعبة، وبالتالي سيتعين على تركيا أن تبحث في الأخير عن خيارات لا عن بدائل لتجاوز نقاط الضعف التي تعانيها الصناعات العسكرية.