تقسيم السودان في ضوء انقسامه، أو بالأحرى تشرذم البلاد، لم يعد فكرة محظور الخوض فيها. الأحداث الجارية وتصريحات أقطاب الحرب أو ممثليهم، والتحركات والاستقطابات بين القبائل العربية والأفريقية وعبرها في شرق البلاد وغربها، وإصرار أطراف الصراع على الحسم العسكري، وتدخلات خبيثة من قوى خارجية، تجعل هذا الاحتمال قاب قوسين أو أدنى من أن يكون حقيقة واقعة في القريب العاجل، وربما العاجل جداً.
تشرذم السودان إن حدث -لا قدر الله- سيضع شرق أفريقيا ووسطها في اختبار هائل لن ينجو منه أي طرف؛ لا سيما أن التحولات الجارية في منطقة الساحل والصحراء، سواء الانقلابات -كما هي الحال في النيجر والغابون ومن قبل مالي وبوركينا فاسو- وتمدد الجماعات الدينية المسلحة المتفرعة عن «القاعدة» و«داعش»، وتمردات عرقية تعود إلى طوارق مالي -كما في منطقة الأزواد- وفقدان البوصلة لدى الدول الكبرى التي أخذت على عاتقها منذ عقدين ما تصفها بمحاربة الإرهاب وجماعاته، وغياب الدولة أو ضعفها التام في عدد من البلدان المجاورة للسودان، وخواء الخطابات الوطنية لصالح صعود الخطابات القبلية والعرقية، كلها عوامل تفصح عن حقبة مليئة بالشرور والتحديات والتهديدات الجسيمة.
في الحالة السودانية، تختلط الحقائق بالمراوغات السياسية والزيف الذي يبدو مقنعاً للبعض، رغم كونه كذباً صريحاً ونفاقاً سياسياً دون سقف، إلى حد تفتقد فيه القوى الإقليمية وأخرى كبرى القدرة على تحديد مسار جماعي وواضح لمحاصرة تداعيات الحرب، ووضع السودان على طريق مصالحة حقيقية ذات أسس صلبة. وما تعدد المبادرات السياسية والأفكار التي طرحت طوال الأشهر الأربعة الماضية -رغم واقعية بعضها وأهميته- إلا تعبير صارخ عن التعقيدات الهائلة التي باتت تحكم مصير السودان الآن وفي المستقبل القريب. ويبدو مؤسفاً ومقلقاً إلى أقصى درجة، أن المطروح حالياً لدى أطراف رئيسية متورطة في الصراع، ليس الحفاظ على وحدة البلاد، وإنما الدفع نحو تقسيمه، بحجة الحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه، إلى أن يُحسم الصراع لاحقاً.
وهنا تشي خريطة القتال ببعض التطورات المقلقة؛ لا سيما في ضوء التحذيرات بإنشاء سلطة حكم في الخرطوم ومناطق أخرى، والتي أطلقها قائد قوات «الدعم السريع»، وهي التي بدأت القتال في منتصف أبريل (نيسان) الماضي ضد القوات المسلحة السودانية، بزعم كونها خاضعة لفلول النظام السابق، في حين أن السبب المعروف رفضها لخطة الاندماج في قوات مسلحة مهنية تخضع للقانون. التحذيرات جاءت -شكلاً- كرد فعل على ما أثير من مطالب لقوى قبلية وسياسية في بورتسودان خلال زيارة البرهان لها، بتشكيل حكومة تسيير أعمال بالتنسيق مع القوات المسلحة. صحيح تم تغليف التحذيرات بما وصفه البعض بخطاب قومي يرفض تقسيم البلاد ويحذر من وجود حكومتين متصارعتين، إحداهما تخضع لفلول البشير.
في المقابل، يبدو التغليف القومي غير مقنع لكثيرين داخل السودان وخارجه، فمن يراعي وحدة بلده وشعبه لا يعطي لنفسه الحق في تدمير موارده المحدودة، ويتسبب في قتل عدة آلاف من الأبرياء، ونزوح 5 ملايين من مدنهم وقراهم إلى أخرى طلباً للأمن المفقود، ونحو مليونين آخرين خرجوا تماماً من السودان وصراعاته إلى حيث يجدون من يحنو عليهم إلى حين، والأكثر من ذلك يبدو سعيداً بتحالفات قبلية في وسط دارفور المنكوبة، ويعتبرها تعزز مواقفه في مواجهة الجيش، في حين يتحدث عن وحدة الشعب ووحدة المصير.
يحذر المعارضون، لا سيما المدنيين وعلى رأسهم «قوى الحرية والتغيير»، من هكذا تصورات وتحذيرات، بشأن تشكيل حكومات وسلطات جزئية تحكم مناطق بعينها وتفقد أخرى لمنافسيها، وتؤدي إلى تقسيم البلاد. تحذير صحيح من حيث مضمونه؛ لكنه يستوجب الاستطراد بالسؤال إلى تلك القوى المدنية السودانية، من دون تفرقة بين أحزاب ونقابات وتحالفات سياسية، والتي تربط نفسها بالدعوة إلى حكم مدني وديمقراطية دون إقصاء، فما الذي فعلته أصلاً لوقف الصراع العسكري؟ ولماذا ناور البعض بين طرفي الصراع دون تبصر بخطورة مثل هذه المناورات الصغيرة؟ ولماذا راهن البعض على تدمير القوات المسلحة؟ ولماذا صمت كثيرون من المدنيين والنشطاء عن إدانة ما حدث في دارفور من قتل ونهب واغتصاب وجرائم ترقى لحد جرائم حرب تستحق العقاب الصارم؟
إن التباكي على مصير البلاد وحده لا يكفي. تعبئة الناس ضد الحرب، والوقوف بحزم ضد القتل والتدمير هي السبيل الوحيدة لحماية السودان.
انقسام السودان الراهن وفق خريطة المعارك الشرسة والمتحركة بين ساعة وأخرى، بين الجيش السوداني وقوات «الدعم السريع» المتمردة، لن يكون نهاية المطاف، فالقتال يخلق يومياً خريطة توسع أو انكماش لهذا الطرف أو ذاك، ومسألة تشكيل حكومة أو سلطة كالتي هدد بها زعيم «الدعم السريع» في المناطق التي يسيطر عليها، سواء في دارفور أو في الخرطوم ومدن أخرى في ظل المعارك المتدحرجة، ستواجه عقبات كبيرة، أولها الاعتراف الدولي والإقليمي؛ لا سيما الأفريقي، مروراً بالموارد ومصادرها التي تتوفر لهذه الحكومة الانقسامية لكي تدير شؤون ومتطلبات تلك المناطق وحاجات المقيمين فيها، والشخصيات التي ستقبل بهذه السلطة غير الشرعية، ومبررات قبولهم هذا الدور غير المشرف، ونهاية بمواجهة القوى الوطنية المناهضة، المدنية والعسكرية، لهكذا حكومة تجر الخراب على البلاد والعباد، وقد تغري جماعات وقوى في دول مجاورة للسودان بأن تجرب حظها في تقسيم بلدها على نحو ما قد يحدث في السودان.
الوضع الشائك في السودان يتجاوز كثيراً إشكالية الانقسام بين حكومتين أو أكثر، لكل منهما أدوات ومناطق تسيطر عليها، وداعمون في الداخل والخارج. ما دام القتال مستمراً، وطموحات السيطرة الشخصية على ما يمكن السيطرة عليه بالقتل والتدمير وترويع المدنيين، لن ينجو السودان من آفاق أخطر وأكثر دموية.
الأسئلة كثيرة ومتشابكة، والإجابات -إن كانت هناك إجابات- مليئة بالتعقيدات النظرية والعملية، وفي الآن نفسه فاقدة للمصداقية واليقين. وبقدر ما سيواجه السودانيون جميعهم -من مع التقسيم ويسعى إليه، أو من هو كاره له وضده جملة وتفصيلاً ولكنه فاقد القدرة على الحركة- مستقبلاً مفعماً بالألم والمعاناة، ستواجه المنطقة بأسرها تحديات وتهديدات هائلة، والمرجح أن «تأثير الدومينو» سيجد أكثر من حالة إقليمية قابلة لتكرار النموذج السوداني بأقل قدر من المقاومة.
نقلا عن الشرق الأوسط