تفكير فى السياسة الخارجية – الحائط العربي
تفكير فى السياسة الخارجية

تفكير فى السياسة الخارجية



العالم من حولنا يتغير بسرعة شديدة، وكذلك الإقليم الذى ننتمى إليه، والحاجة ملحة لتجديد التفكير فى سياسة مصر الخارجية. النظام الدولى يتغير، لكن لا أحد يمكنه التنبؤ بالشكل الذى ستستقر عليه الأمور فى النهاية، وما إذا كان الاستقرار سيعقب الاضطراب الراهن، مثلما استقر عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية لعدة عقود بعد الحرب الكبرى، أم أن السيولة والاضطراب الراهن سيتواصل لفترة طويلة لا نعرف مداها، حتى تصبح السيولة وعدم اليقين هى النظام الدولى الجديد نفسه.

النظام الإقليمى يمر بمرحلة صعود قوى طرفية غير عربية، تخترق العالم العربى فى جرأة،، فيما تتزايد قدرة المجموعة الخليجية على التأثير. تاريخ العالم العربى خلال السبعين عاما الأخيرة هو عبارة عن محاولات فاشلة متتالية لدول عدة سعت لتصدر القيادة العربية. فى المرحلة الراهنة هناك محاولة جديدة لتكرار تجربة القيادة المنفردة. تاريخيا، أثبت النظام الإقليمى العربى عدم قابليته للخضوع لقيادة إقليمية واحدة مهيمنة؛ فهل مازال الأمر على ما كان عليه، وهل فى اللحظة الراهنة تكرار للحظات وتجارب سابقة، أم أننا إزاء تأسيس جديد لنظام إقليمى عربى بقيادة مستدامة، ربما تكون قادرة على إعادة التوازن بين العرب وجيرانهم فى الشرق الأوسط الكبير فى ظروف جديدة.

ربما كان علينا قبل ذلك أن نسأل ما إذا كانت صلاحية العالم العربى كنظام إقليمى ومفهوم تحليلى مازالت قائمة، أم أن انفراط العقد العربى قد وصل إلى مداه، وأن كل ما تبقى لنا هو دول تتحدث اللغة العربية، دون أن تترتب على ذلك أى آثار سياسية مهمة، مثلما تشترك دول أمريكا اللاتينية فى التحدث بالإسبانية.

لا توجد إجابات جاهزة عن هذه الأسئلة، والمطلوب هو جهد بحثى متواصل، وحوار لا ينقطع من أجل ملاحظة وقياس التغيرات التى تحدث كل يوم، والخروج منها باستنتاجات تساعد صانع القرار على اتخاذ الاختيار الصائب. نحتاج إلى القيام بهذه المهمة وقد وضعنا نصب أعيننا أسئلة الأمن القومى والمصالح الوطنية العليا. ما هى التهديدات الأكثر جدية وخطورة لأمننا القومي؟ ما هى الأشياء التى تزعجنا، لكنها لا تمثل تهديدا جديا للأمن والمصلحة القومية؟ التهديد الأكثر جدية وخطورة هو التهديد الذى يعرض أمننا المباشر للخطر، كأن تحشد قوة معادية قواتها المسلحة على حدودنا، أو أن يقع بلد أو إقليم مجاور تحت سلطة معادية قد لا تتردد فى استخدام القوة المسلحة ضدنا. ما هى مصالحنا الحيوية التى نعد قواتنا المسلحة لحمايتها والدفاع عنها. ما هى الطريقة المثلى للدفاع عن مصالحنا وتحقيق أهدافنا؟ هل نعلن نوايانا صريحة، ونرسم الخطوط الحمراء التى لا نتسامح مع اجتيازها، لردع مصادر التهديد، وتجنب وقوع العدوان نتيجة خطأ الحسابات أو على سبيل التجريب والاختبار؛ أم أنه من الأفضل لنا اتباع سياسة تتسم بالغموض والمرونة، بحيث نبقى خياراتنا مفتوحة طوال الوقت، دون التزام مسبق بالتصرف بطريقة معينة. لكل بديل من هذه البدائل مزاياه وعيوبه، تكلفته وفوائده، وفقط عبر الحوار الرصين المتواصل بين الخبراء يمكن استكشاف الجوانب المختلفة لهذه القضايا المعقدة، فالأمر ليس فيه مجال للعنتريات وشجاعة المتهورين، أو الكسل الذهنى لفاقدى العزيمة الانهزاميين، لكن فقط الحساب العقلانى المنضبط.

ما هى الأهداف التى نريد لسياستنا الخارجية أن تحققها؟ لا أقصد قائمة أمنيات مفتوحة من نوعية السلام العالمى والوحدة العربية، والقيادة الإقليمية، لكننى أعنى أهدافا محددة قابلة للتحقيق، ولقياس مدى نجاحنا فى تحقيقها. هل نستهدف إحداث تغيير فى الوضع القائم إقليميا، أم أننا قوة استقرار، تسعى للحفاظ على الأمر الواقع.

هل نستهدف بناء تحالفات متماسكة تخدم مصالحنا، أم أننا نحرص على تجنب التورط فى ارتباطات ملزمة مع آخرين. هل يوجد فى الجوار الإقليمى دول تتفق معنا فى تصوراتها للتهديدات والمصالح بحيث يمكننا العمل معا فى تحالف وثيق، أم أننا دولة فريدة فى ظروفها وثقافتها السياسية، بما يمنعنا من الدخول فى هكذا تحالفات؟

اكتمال الحوار حول سياستنا الخارجية يستلزم نقاشا صريحا حول الأهداف التى تقع خارج نطاق قدرتنا على الفعل والتأثير، خاصة أن للبعض منا تصورات طموحة حول القدرات والأهداف الوطنية. علينا مراجعة أهداف السياسة الخارجية التى سعينا وراءها خلال نصف القرن الأخير، للنظر فى أيها مازال يحتفظ بموقعه على قائمة أهداف سياستنا الخارجية، وأى منها فقد صلاحيته.

السياسة الخارجية المصرية هى إحدى أدوات بناء الشرعية، فالثقافة السياسية المصرية، وما نعلمه لأبنائنا فى المدارس غنى بالتصورات الرائعة حول الدور المحورى القيادى لبلدنا، وهى ثقافة تتغذى على تاريخ قريب قامت مصر خلاله بهذا الدور. نحتاج إلى التوفيق وتحقيق المصالحة بين ثقافتنا السياسية وتاريخنا القريب من ناحية، والقيود الثقيلة التى تفرضها البيئة الإقليمية والدولية من ناحية أخرى، دون المخاطرة بإضعاف الروح الوطنية، أو تثبيط العزائم، أو الإضرار بالشرعية.

قضايا السياسة الخارجية، مثلها مثل كل قضايا الشأن العام، ستبقى موضوعا للجدل والاختلاف. هذا أمر طبيعى وصحى تماما، فتعدد الآراء وتنوعها هو مصدر لإثراء الحوار وإثارة الفكر، خاصة فى عالم ذاخر بانعدام اليقين، والانعطافات المفاجئة. المهم هو أن يكون لدينا تيار عام رئيسى وطنى عقلانى منتبه لتغيرات العالم والإقليم، حوله تيارات نقدية إلى اليمين واليسار، فى حالة من التعايش والحوار المتواصل بحثا عن حقيقة لا يستطيع أحد ادعاء امتلاكها.

نقلا عن الأهرام