حلقة دائرية:
تعقيدات المرحلة الانتقالية في ليبيا وسبل تجاوزها

حلقة دائرية:

تعقيدات المرحلة الانتقالية في ليبيا وسبل تجاوزها



نظّم مركز “العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة”، بالقاهرة، بتاريخ 19 يوليو 2023، جلسة استماع بعنوان “حلقة دائرية: تعقيدات المرحلة الانتقالية في ليبيا وسبل تجاوزها”، واستضاف المركز الدكتور جبريل العبيدي، أكاديمي وكاتب ليبي في صحيفة “الشرق الأوسط” (كمتحدث رئيسي في الجلسة)، كما شارك في الجلسة عدد من الخبراء والباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة، وهم: الدكتور محمد عز العرب، والدكتور محمد عباس ناجي، والأستاذ أحمد عليبة، والأستاذ عمرو عبدالعاطي، والأستاذ حسين معلوم، والأستاذ محمد الفقي، والدكتور حمدي بشير، والأستاذ كرم سعيد، والدكتور هيثم عمران، والأستاذ علي عاطف، والأستاذة نادين المهدي.

تعقيدات المشهد

يشير “العبيدي” إلى أن المشهد العام في ليبي متعثر وينطوي على عدد من التعقيدات، وتحديداً على مستوى التوصيف الحقيقي للأزمة، ويتطرق إلى محددات الأزمة، كالتالي:

1- أزمة متداخلة مركبة: علينا السؤال أولاً هل الأزمة هي ليبية خالصة أم هي أزمة دولية في ليبيا أو هي خليط بين هذا وذاك؟ ومكمن هذ السؤال أن ليبيا تعاني من أزمة تشخيص أولاً. فالأزمة الليبية هي خلط بين أزمة سياسية بين فرقاء ليبيين، وأزمة دولية بين أطراف وقوى دولية داخل ليبيا.

هناك فرقاء ليبيون يتصارعون كل منهم يريد أن تكون له مكانة على الخريطة السياسية، كما أنها أزمة دولية، وهذا يتضح من خلال مؤتمر برلين 1، وهو اجتماع لكل الفرقاء الدوليين باستثناء الأطراف الليبية، وتحديداً الفرقاء الدوليين حول ملف النفط، إيطاليا وفرنسا بشكل واضح، وأمريكا وبريطانيا بشكل غير واضح. ولذلك لا نقول إن الأزمة في ليبيا تقتصر على أطراف داخلية وخلاف بين عقيلة صالح وخالد المشري فقط.

2- غياب مشروع لبناء الدولة: لا نريد تسطيح الأزمة في ليبيا، ولذلك فإنأحد الأبعاد الرئيسية يتمثل في غياب مشروع لبناء الدولة، على الرغم من وجود مشروع سابق لهدم الدولة، إذ إنه خلال عام 2011، تم تنفيذ أكثر من 11 ألف ضربة جوية، لإسقاط النظام السياسي القائم آنذاك، ولكن مع ذلك تم تدمير البنية الأساسية للدولة، ولكن إسقاط النظام لا يتطلب إسقاط الدولة.

وكان هناك مشروع للفوضى لدى القوى التي أسقطت الدولة في ليبيا، لكن في المقابل لم يكن لديها مشروع لإعادة الاستقرار، خاصة مع تداعيات ضرب مخازن الأسلحة، دون الاتجاه إلى جمع هذا السلاح، خاصة أن نظام القذافي كان يمتلك 42 مليون قطعة سلاح، والغرض من نشر الأسلحة في الشرق الأوسط كان مشروع الفوضى، وكانت ليبيا نواة لذلك، وتحديداً لمشروع إعادة تقسيم الشرق الأوسط الذي كان مخططاً له في عام 2006.

3- عرقلة أطراف خارجية للاستقرار: تعيش ليبيا في حالةمراوحة سياسية على مدار 12 عاماً، وعند الحديث عن إنهاء أي مرحلة من المراحل الخمس الانتقالية، تدخلت أطراف لعرقلتها، سواء من الفرقاء الليبيين الذين تحولوا إلى وكلاء للخارج لنسف أي مشروع لإعادة الاستقرار.

وعند النظر إلى الانتخابات التي كانت مقررة في ديسمبر العام الفائت، نجد أنها نسفت من طرف خارجي، وليس من أطراف داخلية، فالشعب يريد الانتخابات، إذ تقدمت أعداد كبيرة من المرشحين للمنافسة على 20 مقعداً في البرلمان في بنغازي وحدها، ورغم تجهيز قوانين الانتخابات تم نسف الانتخابات في آخر وقت بسبب الاعتراض على المرشحين الرئاسيين، والدليل على ذلك حديث السفير الأمريكي إننا لا نريد فلاناً أو فلاناً.

4- ضعف بنية الأحزاب السياسية: الحديث عن حل الأزمة الليبية استناداً إلى أطراف داخلية غير دقيق، فلا يمكن ذلك دون الفرقاء الخارجيين، إذ إن أغلب القوى السياسية في الحكم لا يريدون الخروج من السلطة، فهناك أطراف نفعية لا تريد الخروج من المشهد الليبي.

القوى السياسية بجميع أنواعها واختلاف تركيباتها لا تمتلك خبرة كافية بالعمل السياسي مثل التجارب السياسية والحزبية لدول الجوار الليبي على سبيل المثال، وليبيا لم تشهد تاريخاً يُذكر في العمل السياسي أو الحزبي، إذ كانت الأحزاب ممنوعة في نظام القذافي طيلة 42 عاماً، كما منع الملك إدريس السنوسي الأحزاب.

5- تحولات الموقف الروسي تجاه أزمة ليبيا: لم تكن روسيا تعلن عن دعمها أو وجودها بشكل رسمي في ليبيا، وكانت تقف في الخلف، رغم أن هناك اتفاقية بين الجيشين الروسي والليبي، فروسيا كانت دائماً تستغل الموقف في ليبيا بملفات خارج ليبيا، مثل الصراع مع تركيا في سوريا، فكانت موسكو مستعدة لتقديم تنازلات عن موقفها في ليبيا، لصالح تفاهمات في مناطق أخرى.

روسيالم تكن تعنيها ليبيا في الفترات الماضية، ولكنها متشددة في موقفها في ليبيا حالياً، وذلك في سياق الصراع على النفوذ مع أمريكا في أفريقيا، فأصبحت ليبيا مهمة، ومن الممكن ألا تتخلى روسيا عن ليبيا.

تحركات متعددة

يُحدد “العبيدي” عدداً من النقاط الرئيسية لحل الأزمة الليبية العالقة، في ضوء تعقيداتها المركبة، وأبرزها:

1- التوافق بين دول الجوار الجغرافي: يجب النظر إلى دور الدول الإقليمية في المشهد الليبي، وأهمية تحقيق تفاهمات بينها لحل الأزمة، فمصر كان لها دور إيجابي في جمع الفرقاء الليبيين، ومساعدة الجيش الليبي المعترف به في مواجهة التنظيمات المتطرقة، خاصة وأن تداعيات الأزمة الليبية تمتد إلى تأثيرات على الأمن القومي المصري، ويُحسب لمصر اتخاذ موقف محايد من الفرقاء السياسيين.

ولكن في المقابل، فإن الموقف الجزائري كان سلبياً، وكانت دائماً في الخانة المخالفة لأي تقارب بين الفرقاء يحدث في مصر أو المغرب، وهذا مستغرب، خاصة أن أي خلل في ليبيا سيؤثر على الجزائر، أما تونس فنظراً لظروفها فقد كانت لا ترغب في أن تقع في إشكالية، فاتجهت إلى سياسة إرضاء الطرفين.

على جانب آخر، كانت تركيا ترغب في الغاز الليبي بادعاء جغرافيا غير موجودة بين الدولتين، في حين يفصل بينهما اليونان، وكان الهدف من توقيع الاتفاقية بين أنقرة والحكومة في طرابلس، حصول تركيا على الغاز الليبي، وكأن لها إرثاً في ليبيا.

2- تجنّب الأطراف الداخلية غير الفاعلة: الأحزاب السياسية في ليبيا لا تقدم حلولاً سياسية، ولكن الأمم المتحدة تصر على الاستعانة بالأحزاب، ولكنها أحزاب كرتونية ليست لهاقاعدة شعبية، وتبلغ نسبة تمثيل الشعب فيها نحو 5%، خاصة أن الشعب الليبي غير مسيس، ولذلك نحن أمام حل الأزمة بطريقة غير فاعلة، مع اللجوء إلى أحزاب لا يعتبرها الشعب الليبي تمثله وغير فاعلة، وكذلك التواصل مع الكيانات التي يظن المجتمع الدولي أنها فاعلة في المشهد الليبي مثل جماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان، دون أن تمثل الشعب الليبي، ولكن لديها قدرة تنظيمية فقط، اعتماداً على امتدادات جغرافية في محيط ليبيا.

3- أهمية تحقيق توافق دولي على الحل: في النهاية، لن نستطيع حل الأزمة الليبية دون الاتفاق مع الأطراف المتداخلة الدولية، إذ إن ليبيا بحاجة إلى اتفاق دولي يضم الدول التي ساهمت في إسقاط الدولة في ليبيا على ضرورة اتخاذ خطوة لمشروع إعادة الاستقرار والانتقال السياسي.

وما لم تكن هناك إرادة دولية حقيقية لحل الأزمة وفرض عقوبات على أمراء الكتائب والمليشيات لأنهم معروفون بالاسم، يتنقلون بين الدول، بعضهم يريدون انعكاس المشهد اللبناني في ليبيا؛ فلن يتم حل الأزمة الحالية، دون الركون إلى تجميد الأزمة فقط وعدم التصعيد.

4- تخلي أمريكا عن النظرة الأمنية: تركيا تدخلت في ليبيا نيابة عن أمريكا، في مواجهة التدخل الروسي، وهي الحقيقة المسكوت عنها، إذ إن الأمريكان في الصفوف الأمامية ولكن بلاعبين مختلفين في المشهد السياسي، فمحافظ البنك المركزي الليبي يتم استدعاؤه لأمريكا أكثر من مرة، وهذا تدخل فاق السقف.

ويشير إلى التعامل الأمريكي بنظرة أمنية وليست سياسية مع الأزمة الليبية، الدور الذي يلعبه السفير الأمريكي، إذ لم يُكلف سفير أمريكي في ليبيا من خارج الخلفية الأمنية، حتى السفير الحالي، وإذا كانت أمريكا ترغب بجدية في حل الأزمة الليبية، فإنها ستتجه إلى تعيين سفير من خلفية سياسية من أروقة وزارة الخارجية.

5- حل أزمة القوات الأجنبية والمليشيات المحلية: المليشيات ليست المعضلة الوحيدة التي تواجه ليبيا، ولكن المرتزقة أيضاً الذين جاؤوا إلى ليبيا، وهنا الحديث عن القوات الأجنبية داخل ليبيا سواء كانت نظامية أو غير نظامية، مثل المرتزقة السوريين أو عناصر فاغنز، وهذه الملفات عائق حتى هذه اللحظة في حل الأزمة.

وكان هناك اتفاق على إخراج المرتزقة، ولكن تعطل الأمر، ويُمكن حسم الملف بقرار من مجلس الأمن. وعلى الجانب الآخر، فإن ملف المليشيات يُمكن التعاطي معه من خلال استيعابهم وحل الكتائب وانضمامهم إلى الجيش والقوات الشرطية.

6- ضرورة تحقيق عدالة انتقالية: لحل الأزمة الليبية، يجب تفعيل العدالة الانتقالية،فمنذ إقرار قانون العزل السياسي عقب عملية صِدام مجتمعي، لم تحدث مصالحة وطنية حقيقية، ولا بد من مشاركة الجميع في بناء الدولة التي تعاني من حالة عدم الاستقرار، وبدون ذلك ستظل ليبيا تراوح في حالة الفوضى.

ليبيالم تكن دولة سياسية، كانت دولة تُحكم في خيمة، من قبل بعض الأشخاص الذين يُسيّرون البلاد بشكل أو بآخر، وطالما أن الثورة تعني الفوضى فليبيا لا تزال تراوح في حالة اللا دولة، خاصة وأنها انتقلت نوعياً من حالة الفوضى إلى الاستقرار بفعل الجيش الليبي، ولكن لم تحقق الخطوات التي تليها، فلم تنتقل لمرحلة الدولة، وهو ما لن يحدث في ظل الانقسام.

توافق لازم

ويؤكد الأكاديمي والكاتب الليبي أن حل الأزمة الليبية عن طريق الفرقاء في الداخل وحدهم يُعتبر مغالطة كبيرة، فعلى مدار 12 عاماً وعبر 7 حكومات لم يتحقق شيء، فهناك مؤسسات متنازعة بين الشرق والغرب، ولذلك لا بد من تحقيق توافق شعبي حول طريقة تشكيل الدولة، سواء ببناء دولة موجودة للأقاليم الثلاثة، أو الاتفاق المجتمعي على خيار الكونفدرالية.