تتجه بوصلة المشهد السياسي العراقي في المرحلة الحالية نحو عملية تشكيل الحكومة التي يعتبرها الساسة والمراقبون هي المرحلة الأصعب على مستوى التحديات بعد تجاوز عقدة التكليف بتولي محمد شياع السوداني رئاسة الحكومة. ويتمثّل التحدي الرئيسي في هذه المرحلة في عملية هندسة التشكيلة الحكومية وتوزيع الحقائب الوزارية والمناصب ذات الصلة كتعيين نواب رئيس الجمهورية الثلاثة، بشكل سلس يحافظ على هيكل التحالفات السياسية التي أوصلت المشهد السياسي إلى نقطة تشكيل الحكومة.
كما يتعين أن يتم ذلك خلال المهلة الدستورية للتشكيل والمقررة بثلاثين يوماً، وإلا فسيضطر رئيس الجمهورية إلى تكليف مرشح آخر من الكتلة النيابية الأكبر. ويأمل السوداني ومن خلفه الإطار التنسيقي في إتمام التشكيلة الحكومية في موعدها أو ربما خلال فترة أقل، لذا يبدو أن كواليس عملية التشكيل التي تتبلور حالياً تنصب على عدم إهدار فرصة التكليف عبر وضع ضوابط محددة لتوزيع المناصب بين القوى التي ستشارك في الحكومة.
مهمة صعبة
بحسب ما كشفت عنه العديد من التقارير المحلية، نقلاً عن السوداني، فإن قواعد توزيع الحقائب الوزارية التي تشمل 25 حقيبة وزارية، ستتم وفقاً للوزن النسبي للكتل النيابية، بحيث ستكون هناك 12 حقيبة وزارية للإطار التنسيقي، مقابل 11 حقيبة للسنة والأكراد، وحقيبتان لكل من التركمان والمسيحيين. كما سيؤخذ في الاعتبار وزن الحقيبة الوزارية ومناصب نواب رئيس الجمهورية الثلاثة.
وعلى الرغم من إرساء هذه القاعدة، إلى جانب الإشارات التي أرسلها رئيس الحكومة المكلف بأن الإطار يسعى إلى تقاسم مقبول يحافظ على تماسك العلاقة داخل ائتلاف إدارة الدولة، ومنها البدء بتشكيل مكتبه من شخصيات من خارج الإطار؛ إلا أنه لا يزال من المبكر القول بأن إخراج التشكيلة الحكومية سيتم بسهولة، خاصة وأن ائتلاف إدارة الدولة هو تكوين مركب من تحالف الإطار ثم التحالفات الأخرى لمكونات متعددة، مما يعني أن هناك حاجة لترضية الأطراف داخل هذه الدائرة السياسية المركبة، وهي مسألة صعبة.
فبحسب المراقبين، فإن هناك تدافعاً بين مكونات الإطار التنسيقي للحصول على حقائب سيادية معينة، بالإضافة إلى ترقب الشركاء أيضاً للحصول على البعض منها، أو وزارات لها وزن طالما أن الإطار سيستأثر بالحقائب السيادية.
تحديات قائمة
واقعياً، ربما يشكل السياق السالف الإشارة إليه التحدي الإجرائي لعملية تشكيل الحكومة، والتي لا تعني في الوقت ذاته أن الأزمة السياسية العراقية بصدد الانفراجة الكاملة، وذلك بالنظر إلى الصورة الأوسع لحقيقة التحديات السياسية القائمة في المشهد العراقي، والتي لن يتم تجاوزها بمجرد ولادة حكومة جديدة، ومنها على سبيل المثال:
1- استمرار الصدريين كتيار احتجاجي: حسم التيار الصدري مبكراً موقفه من الحكومة، ففضلاً عن أنه لن يشارك فيها، فقد دعا أنصاره وحلفاءه السياسيين إلى عدم المشاركة في “حكومة تبعية مليشياوية”، وبالتالي قطع الطريق على السوداني في محاولة إعادة مد الجسور ما بين الإطار التنسيقي والتيار الصدري. كما يضع حجر عثرة أمام أول بند في تعهدات السوداني الوارد في خطاب التكليف، والمتمثل في تبني حوار وطني، مستهدفاً بذلك مغازلة التيار الصدري. وعلى الأرجح، سيكون لهذا الموقف بين الطرفين تداعياته، فثمة اتفاق على أن وجود التيار خارج العملية السياسية هو إضعاف لها.
لكن من ناحية أخرى، من المتصور أن الصدريين أيضاً في وضع إشكالي، صحيح أن التيار يظل في قلب معادلة التفاعلات السياسية، لكنه خارج العملية السياسية، ولا يتواجد في إطار المعارضة بشكلها التقليدي، ومن ثم يبدو أقرب إلى تيار احتجاجي لديه قاعدة جماهيرية، وإن كان لا يزال من غير الواضح ما هي خطته المستقبلية، وهل سيتعاطى مع التطورات السياسية بمنطق رد الفعل السياسي، أم سيراهن مرة أخرى على حراك الشارع على نحو ما حدث في احتجاجات تشرين ٢٠١٩؟
2- حسابات القوى السياسية المحايدة: فشل السوداني في دفع تيار الحكمة إلى مراجعة موقفه الرافض للمشاركة في الحكومة، وفقاً لمخرجات لقاء رئيس الحكومة المكلف وعمار الحكيم زعيم التيار. ويشكل مغزى هذا الموقف نقطة إضعاف أخرى للحكومة، خاصة وأن تيار الحكمة هو أحد مكونات الإطار التنسيقي، لكنه بهذا الوضع يضع مسافة بينه وبين الحسابات السياسية لباقي مكونات الإطار، وبالتالي ربما سيجلس الحكمة في مقعد المراقب.
هذا الموقف سيرتب بدوره تداعيات أيضاً، فتيار الحكمة كان يمكن أن يكون الطرف الأساسي في ترميم عملية التصدع داخل المكون الشيعي بشكل عام في إطار المساعي الحميدة التي قادها في فترة الأزمة ما بين التيار والإطار، لكن مع إهدار هذه الفرصة قبل عملية تشكيل الحكومة، ثم صلابة موقف التيار الصدري لاحقاً، فإن ذلك معناه أن الحكمة ربما يدرك أن المرحلة المقبلة قد لا تكون مواتية للاستقرار السياسي الذي يقبل بالمشاركة فيه.
3- مواقف الشركاء في ائتلاف “إدارة الدولة”: على الرغم من حسم القواعد الخاصة بتشكيلة الحكومة وفقاً للأوزان النسبية، كما سلفت الإشارة، لكن المتصور أن هناك تعقيدات في ترجمة المحاصصة على هذا النحو، فثمة تيار يطرح أولوية لتشكيلة تكنوقراط، بالنظر إلى أولوية الملفات الداخلية التي يتصدرها الحاجة للخدمات، إضافة إلى الحاجة إلى تبريد درجة حرارة المشهد السياسي الساخن، لكن ربما ينطوي هذا الاتجاه على نوع من المثالية السياسية غير القابلة للتنفيذ، كونه يتعارض واقعياً مع الطابع السياسي للحكومة ومسار تشكلها بعد عام من الانتخابات.
كما أن الإشارات التي يحاول السوداني تصديرها، مثل عملية اختيار طاقم مكتبه السياسي من الإطار التنسيقي، لا تدعم فرضية “التكنوقراط” كسلوك ونهج، فالسوداني نفسه لم يكن مقنعاً للمعارضة بنفس الحجة.
4- عودة الحراك الجماهيري مجدداً: وذلك بشكله الذي كان عليه عام ٢٠١٩، كعلامة على استعادة الحالة الثورية مرة أخرى، من خلال الدعوة إلى تظاهرات ٢٥ أكتوبر الجاري، وهذا التوجه سيشكل عامل ضغط واختباراً مبكراً للحكومة قيد التشكيل، على نحو قد يعيد المشهد بكامله إلى المربع الأول للأزمة السياسية، وربما يخشى أن يبدأ الصدام مبكراً سواء بالتوازي مع عملية تشكيل الحكومة أو لاحقاً لها.
اختبار رئيسي
في الأخير، من المتصور أنه على الرغم من التقدم في خطوة تكليف الحكومة، لكن عملية تشكيلها ستمثل اختباراً رئيسياً قبل أن تبدأ عملها فعلياً، وثمة مؤشرات تُنذر بمرحلة عدم استقرار سياسي مرة أخرى، في ظل الخلل الهيكلي بالنظر إلى واقع الخريطة السياسية الحالية، مقابل رهانات قوى سياسية وقوى الحراك التي تتحضر للاشتباك مبكراً مع الحكومة من نقطة سابقة وهي احتجاجات تشرين ٢٠١٩، وترى أن المسافة البينية ما بين حكومة عادل عبد المهدي وحكومة شياع السوداني لم تشهد تغييراً فارقاً.