اتجاه متصاعد:
تسييس أدوار مفوضيات الانتخابات في دول الأزمات

اتجاه متصاعد:

تسييس أدوار مفوضيات الانتخابات في دول الأزمات



بشكل عام، تحدد القوانين أدوار المفوضيات العليا للانتخابات على أنها آليات لوجستية لتنفيذ عملية الانتخابات، من تسجيل الناخبين، وقبول أوراق المرشحين، وإجراء عملية الاقتراع، حتى الإعلان عن النتائج. إلا أن التجربة الراهنة في المنطقة العربية، لاسيما في دول الأزمات، تعكس اتجاهاً متصاعداً نحو تسييس أدوار المفوضيات إلى الدرجة التي أصبح يتم التعامل معها على أنها طرف سياسي أكثر من كونها آلية إجرائية، وهو ما تعكسه ردود فعل القوى السياسية تجاه المفوضيات من التلويح باستخدام العنف ضدها، وإغلاق مكاتب الاقتراع، واللجوء إلى القضاء للتشكيك في نزاهتها، بخلاف الطعن في النتائج المعلنة من جانبها، الأمر الذي يطرح تساؤلاً حول مدى نضج تجربة المفوضيات في دول الأزمات، ومدى استقلاليتها وحياديتها.

أسباب عديدة

في هذا السياق، فإن ثمة أسباباً عديدة تفسر عملية تسييس دور المفوضيات في نطاق التجارب الراهنة في دول الأزمات، كما هو الحال في التجربة الليبية بالنسبة للموقف من قوائم المرشحين، أو خلال عملية الإعلان عن النتائج كما في الحالة العراقية. وتتمثل أبرز تلك الأسباب في:

1- تعثر عملية الانتقال السياسي بدول الأزمات: تجري العملية السياسية في بيئة متوترة بطبيعة الحال. ففي حالتى العراق وليبيا، فإن الانتخابات تأتي في إطار عملية انتقال سياسي لم تشهد استقراراً شاملاً، أو نقلات نوعية ما بين مشهد الفوضى السياسية أو الاحتراب الأهلي، وحالة الاستقرار، بقدر ما شهدت حالة من التعبئة للأدوات المسلحة، والتصارع السياسي وليس التنافس. فتحالف “الفتح” و”كتائب عصائب أهل الحق” الرافضة لنتائج الانتخابات كانت ترفع شعار “المقاومة ضد الوجود الأمريكي في العراق”، في حين أن الولايات المتحدة الأمريكية نفسها كانت تنفذ خطة انسحاب بالفعل، بل إن عملية مقاومة تلك الأطراف للوجود العسكري الأمريكي في العراق نظر إليها داخلياً على أنها رغبة إيرانية أكثر من كونها رغبة وطنية، وتهدف في الأخير إلى تعزيز التمدد الإيراني في العراق. 

2- منظور القوى السياسية للعملية الانتخابية: تعتبر القوى السياسية العملية الانتخابية آلية لفرز موازين القوى، وترى أن الانتخابات يفترض أن تكون انعكاساً لمقدار وزنها السياسي وقدراتها العسكرية أكثر من كونها تعبيراً عن حجم شعبيتها، بناءً على مشروعاتها ومواقفها السياسية والوطنية بشكل عام. إلا أن التجربة الراهنة تعكس اتجاهات مغايرة لهذا التصور. ففي الحالة العراقية، لم تقبل القوى الخاسرة في الانتخابات بالنتائج التي أعلنت عنها المفوضية وطالبت بتغييرها من اللحظة الأولى، كما دفعت أنصارها إلى التظاهر ضدها، وهو أيضاً منظور محتمل في الحالة الليبية، في ظل المخاوف التي يطرحها المراقبون من إمكانية رفض الأطراف الخاسرة للنتائج في نهاية المطاف.

3- عدم نضوج التجربة السياسية القائمة: تشير خريطة الانتخابات في الحالات الهشة سياسياً وأمنياً إلى أن القوى المنخرطة في العملية الانتخابية إما قوى سياسية لديها ظهير عسكري، أو فصائل مسلحة وجماعات مصالح لديها واجهة سياسية تتمثل في المرشح أو التكتل الانتخابي الذي يعبر عنها، وربما تحالفات تجمع بين هذا وذاك، ومن ثم فإن عدم نضوج التجربة السياسية في هذه الحالات يمثل تحدياً في حد ذاته للعملية الانتخابية وإجراءاتها والأطراف القائمة عليها. فهناك عشرات الأحزاب في كل من العراق وليبيا لم تمثل بعد البديل السياسي للقوى الفصائلية أو الروابط القبلية والعشائرية أو تكتلات المصالح الاجتماعية أو الاقتصادية.

4- صعوبة تحييد متغير التدخل الخارجي: يصعب، في بعض الأحيان، تحييد متغير التدخل الخارجي في العملية الانتخابية بالنظر إلى طبيعة الحالات التي تجري في سياقها. وهناك مؤشرات عديدة في هذا السياق، بالنسبة للعلاقات الخارجية للقوى السياسية والمرشحين، وتمدد هذه العلاقات مع المفوضيات عبر ممثلي الدول أو الهيئات الدولية، كالبعثات الأممية. فعلى الرغم من خروج العراق من تحت طائلة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة في 9 ديسمبر 2017، إلا أن موقف البعثة الأممية في العراق ظل ينظر إليه على أنه ليس موقفاً محايداً تجاه الجانب الإجرائي في العملية الانتخابية، حيث كان لدى المبعوثة الأممية جينين بلاسخارت مواقف صريحة ومعلنة تجاه طعن بعض القوى على الانتخابات بالتزوير، وكأن البعثة هى المسئولة عن العملية الانتخابية.

وفي ليبيا أيضاً، فإن إعلان قائمة المرشحين المستبعدين، ومن بينهم سيف الإسلام القذافي، في 24 نوفمبر الجاري، وضع المفوضية في مأزق، لاسيما وأنها سبق وأعلنت أن أوراقه تم قبولها ومستوفاة. يضاف إلى ذلك أيضاً استقالة المبعوث الأممي إلى ليبيا يان كوبيتش، في 23 نوفمبر الحالي، أى قبيل شهر من إجراء الانتخابات، وهو ما طرح علامة استفهام على المشهد السياسي برمته وضمنياً العملية الانتخابية بشكل أساسي، بما تنطوي عليه من قوانين وإجراءات.

دلالات رئيسية

تعكس هذه الأسباب في مجملها دلالات عديدة، يتمثل أبرزها في أن تورط مفوضية الانتخابات في تصريحات سياسية يعبر أحياناً عن تخبطها، وافتقارها للمعايير المطلوبة في الكفاءة والنزاهة. فعلى سبيل المثال، رغم تأكيد المفوضية العليا الليبية للانتخابات صحة الموقف القانوني لسيف الإسلام القذافي، إلا أن القائمة الأوَّلية التي أصدرتها في وقت لاحق جاءت مخالفة لهذا التأكيد، وواكب هذا الموقف اعتراض كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا على ترشحه ودعوتهما السلطات الليبية إلى تسليمه للمحكمة الجنائية الدولية.

يضاف إلى ذلك، أنها لم تدرج رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة في القائمة نفسها على الرغم من أنها سبق وأكدت أن ترشحه مخالف للمادة 12 التي كانت تتطلب تقاعده عن الوظيفة العامة قبل موعد الانتخابات بثلاثة أشهر، وهى ملابسات عززت من الشكوك في حياد المفوضية رغم سلمية الإجراءات، إذ لا يزال هناك إمكانية للطعن القضائي على القائمة الأوَّلية، قبل إعلان القائمة النهائية في 6 ديسمبر المقبل.  

وعلى النحو ذاته، ورغم تأكيد المفوضية في العراق على تقارب نتائج العد اليدوي مع العد الإلكتروني، وإبداءها ثقة كبيرة في أن نتائج الطعون- التي بلغت نحو 1000 طعن- لن تغير من النتائج التي أعلنت عنها، بل إنها أكدت أن عملية العد اليدوي جاءت من باب الترضية للأطراف الرافضة للعدد الإلكتروني، إلا أن ما حدث هو أن القضاء أثبت مخالفة النتائج التي أقرَّتها المفوضية بالفعل لصالح 8 مرشحين محسوبين على القوائم التي حصلت على أقل الأصوات، وبالتالي دعّمت شكوكهم في صحة عملية الفرز التي قامت بها المفوضية.

 وعلى الجانب الآخر، ظهر اتجاه يرى أن التصويب الذي تم من جانب الهيئة القضائية هو عملية ترضية للأطراف الرافضة للنتائج بهدف إقناعها بالتراجع عن التصعيد، وأصبح السياق العام هو أن المؤسسات المعنية بالعملية الانتخابية تعتمد سياسة الترضية لاحتواء الأزمة، وليس عن قناعة بسلمية الإجراءات والقرارات.

إشكالية مستمرة

إجمالاً، يمكن القول إن تجربة دور المفوضية لم تصل بعد إلى مرحلة النضج المطلوبة، حيث ما زالت تتأثر بالأوضاع السياسية والأمنية. وكما تتحمل الأطراف المتنافسة والمتصارعة جانباً من المسئولية، فإن المفوضيات هى الأخرى تتحمل جانباً آخر بحكم أدائها، وتورطها في تصريحات سياسية، في بعض الأحيان، تُفقِدها مصداقية الحياد المطلوب.