صراع السرديات:
تأثير الحضور التركي في دوائر الاستشارات الأمريكية

صراع السرديات:

تأثير الحضور التركي في دوائر الاستشارات الأمريكية



سعت أنقرة خلال السنوات الماضية إلى إنشاء روابط متعددة مع دوائر الاستشارات والأبحاث الأمريكية عبر أدوات مختلفة تضم التمويل والشراكات البحثية، وذلك في خضم التفاعل بين حكومة حزب العدالة والتنمية والجهات الفاعلة غير الحكومية، واستخدام هذه الجهات كأدوات ووكلاء للسياسة الخارجية التركية. وفي هكذا سياق، استغل النظام التركي طابع النظام الأمريكي، الذي يسمح لمؤسسات الأبحاث والاستشارات ومراكز الفكر بإقامة علاقات مع جهات خارجية وحكومات دول، في عملية الترويج لسياساتها داخل واشنطن. أو بمعنى آخر، إيجاد سياق أمريكي متماشٍ مع المصالح والرؤية التركية للقضايا الإقليمية، وفي الوقت ذاته، محاولة تخفيض حدة الانتقادات الأمريكية للسياسة التركية، ومجابهة السرديات المضادة لها.

أدوات التفاعل

استحوذت مؤسسات الاستشارات والأبحاث الأمريكية على اهتمام النظام التركي في السنوات الأخيرة، وخصوصًا مع المشروع الفكري الذي بُنيت عليه تجربة حزب العدالة والتنمية في السلطة، وهو المشروع الذي اعتمد -في جانب كبير منه- على أطروحات “أحمد داود أوغلو”، قبل أن تحدث القطيعة بينه وبين الحزب بقيادة “أردوغان”؛ فقد كان “أوغلو” يعتقد -بحسب ما ورد في كتابه “العمق الاستراتيجي”- أن “سياسة القوة يجب أن تعبئ جميع الجهات الفاعلة الاجتماعية”، وهو ما يتضمن المراكز البحثية ودوائر الاستشارات سواء في تركيا أو في الخارج.

وفي هكذا سياق، سعت أنقرة إلى صياغة علاقات أكتر تماسكًا مع دوائر الاستشارات والأبحاث الأمريكية، واعتمد النظام التركي على عدد من الأدوات للتفاعل مع هذه الدوائر، ربما أهمها التمويل والتعاقد مع عدد من المؤسسات لخدمة المصالح التركية. فعلى سبيل المثال، تعد تركيا إحدى الدول المساهمة في تمويل المجلس الأطلسي، كما تشير البيانات المعلنة من قبل مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS إلى أن تركيا تعد من الدول الممولة للمركز، وبالرغم من أن المركز لم يكشف بالتحديد حجم التمويل التركي، إلا أنه صنف تركيا ضمن الدول التي قدمت تمويلًا يتراوح بين 100 ألف دولار و500 ألف دولار خلال العام المالي من 1 أكتوبر 2018 حتى 30 سبتمبر 2019.

وامتد التمويل التركي لعدد من مؤسسات الاستشارات والعلاقات العامة الأمريكية على غرار مؤسسة ميركوري Mercury Public Affairs. ووفقًا للبيانات المعلنة تعاقدت تركيا مع المؤسسة في مايو 2018 مقابل 758 ألف دولار، كما أبرم مجلس الأعمال التركي الأمريكي تعاقدًا جديدًا مع مؤسسة ميركوري، في شهر يناير 2020، بقيمة مليون دولار. وتضم مؤسسات الاستشارات المتعاقدة والمتعاونة مع أنقرة، والمؤسسات التابعة لها، أسماء أخرى مثل كابيتول كاونسيل Capitol Counsel، ومجموعة فينابل Venable، ومؤسسة جرينرج تراويج Greenberg Traurig.

وبحسب بعض التقديرات الصادرة عن Center for Responsive Politics، في شهر أكتوبر 2019، فقد أنفقت الحكومة التركية منذ عام 2017 ما يقرب من 12,3 مليون دولار على توظيف شركات ضغط رفيعة المستوى في واشنطن للتأثير على الحكومة الأمريكية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الكيانات المرتبطة بالحكومة التركية، مثل بنك خلق، وجمعية المصدرين الأتراك، ومجلس الأعمال التركي الأمريكي، أنفقت مجتمعة 4.3 ملايين دولار أخرى في التعاقد مع مؤسسات الاستشارات والضغط الأمريكية.

ولم يتوقف التفاعل التركي مع مراكز الاستشارات والأبحاث الأمريكية عند حدود التمويل، ولكنه تضمن أيضًا إقامة شراكات وفعاليات مشتركة مع هذه المؤسسات، فالمجلس الأطلسي تجمعه علاقات طيبة بأنقرة والمسؤولين الأتراك، حتى إن المجلس اعتاد خلال السنوات الماضية إقامة فعاليات بحثية في تركيا، وذلك على غرار قمة إسطنبول التي عقدها المجلس الأطلسي في إبريل 2017، والتي ضمت العديد من الشخصيات المؤثرة في عالم السياسة والطاقة والاقتصاد والاستثمار. وبالرغم من أن هذه الفعالية تم نقلها فيما بعد من تركيا إلى دولة الإمارات، إلا أن علاقة أنقرة بالمجلس الأطلسي ظلت قائمة.

خدمة السياسة التركية

تُشكل دوائر الاستشارات والأبحاث الأمريكية أداة هامة بالنسبة للنظام التركي ومصالحه، وخاصة مع مساحة تأثير هذه الدوائر في عملية صنع القرار الأمريكي. وعطفًا على هذا، استدعت العلاقة بين النظام التركي ودوائر الاستشارات والأبحاث الأمريكية عددًا من الأهداف الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

أولًا- خلق بيئة متسامحة Permissive environment : إذ إن الارتباط بدوائر الاستشارات ومراكز الفكر والرأي الأمريكية يستهدف خلق بيئة متسامحة تجاه المصالح والرؤية التركية، ولا يتوقف إيجاد مثل هذه البيئة على إدراج المعلومات المتحيزة في سلسلة صنع السياسات على سبيل الحصر، ولكنه يمكن أن يجري عبر وسائل الإعلام الجماهيري والاجتماعية لإحداث تأثير في آراء وتوجهات الأفراد العاديين، ومن ثم جعلهم أكثر تقبلًا وتسامحًا مع الرواية التركية الرسمية، وبالتالي تخفيف حدة المقاومة لسياسات أنقرة. فالمراكز البحثية التي تتلقى دعمًا وتمويلًا تركيًّا تتجنب التعرض لقضايا سلبية بالنسبة لأنقرة، وحتى عندما تتناول مثل هذه القضايا فهي تعرضها بشكل متحيز للرؤية التركية.

ثانيًا- التكريس للحضور التركي الرسمي: فواشنطن تعبر، بشكل أو بآخر، عن ساحة للسرديات المتنازعة بين مجموعة من الفاعلين الخارجيين، حيث يسعى كل طرف إلى إثبات سرديته في مقابل الآخرين، وتركيا بطبيعة الحال تسعى إلى الترويج لخطابها الرسمي في واشنطن، وتستخدم في ذلك بعض مؤسسات الأبحاث والاستشارات الأمريكية، ويظهر ذلك الأمر بوضوح في العلاقة بين أنقرة والمجلس الأطلسي، فالمجلس اعتاد استضافة المسؤولين الأتراك بين حين وآخر لمناقشة قضايا متنوعة. فعلى سبيل المثال، استضاف المجلس الأطلسي في شهر إبريل 2020 وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو” في ندوة عبر الفيديو كونفرانس، ليقدم الرؤية الرسمية إزاء القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام التركي.

ثالثًا- تخفيف حدة الصدام مع إدارة “بايدن”: وهو متغير استجد وأصبح أحد الأهداف الرئيسية للنظام التركي في علاقاته بدوائر الاستشارات الأمريكية، وخصوصًا أن الرئيس الأمريكي الجديد “جو بايدن” أرسل برسائل سلبية للنظام التركي وحتى قبل وصوله إلى البيت الأبيض، ولعل هذا ما اتضح من الأزمة التي اندلعت بين الدولتين في شهر أغسطس 2020 حينما عبّرت أنقرة عن استيائها بعد نشر تسجيل فيديو يعود لمقابلة أجراها “جو بايدن” مع صحيفة “نيويورك تايمز” في شهر ديسمبر 2019، تضمن هجومًا من “بايدن” على الرئيس التركي، حيث وصف “بايدن” الرئيس التركي “أردوغان” بأنه “مستبد” وندد بسياسته تجاه الأكراد، ودعا إلى دعم المعارضة.

رابعًا- تعزيز صورة النظام التركي: حيث توظف أنقرة علاقاتها بعدد من مؤسسات الاستشارات والأبحاث الأمريكية من أجل تعزيز صورة النظام التركي، ففي شهر إبريل 2020، وبالتزامن مع ندوة المجلس الأطلسي التي شارك فيها وزير الخارجية التركي، والتي روجت بصورة إيجابية للنظام التركي، نشرت صحيفة “ذا هيل” الأمريكية مقالة لساشا توبيريتش Sasha Toperich، بتاريخ 14 إبريل 2020، تضمنت إشادة بدور تركيا، ووصف تركيا بأنها فاعل رئيسي في مواجهة جائحة فيروس كورونا عالميًا من خلال تقديمها المساعدات للعديد من الدول.

ويلاحظ أن هذا الدعم لصورة النظام لم يتوقف عند الجانب السياسي، ولكنه امتد إلى البعد الاقتصادي. فعلى سبيل المثال، ظهرت مكاتبات لمؤسسة ميركوري Mercury Public Affairs في شهر يوليو 2020، لخدمة مصالح مجلس الأعمال التركي الأمريكي، حول كيفية الترويج لصناعة السياحة والسفر الفاخر في تركيا نتيجة لتأثيرات أزمة فيروس كورونا.

خامسًا- تشويه صورة القوى المعارضة لأنقرة: ففيما يستخدم النظام التركي بعض مؤسسات الاستشارات والأبحاث الأمريكية لتعزيز صورته، فإنه يوظف هذه المؤسسات أيضًا في تشويه صورة القوة المناوئة لأنقرة، وخصوصًا الأكراد والأرمن. ففي شهر فبراير 2019، على سبيل المثال، قامت مؤسسة ميركوري بتوزيع مقال لوزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو”، وصف خلاله “حزب العمال الكردستاني بأنه إرهابي، وطالب حلف الناتو بمساعدة تركيا في محاربته”. وتكرر هذا النمط في شهر يوليو 2020 حينما قامت المؤسسة ذاتها بتوزيع بيان صحفي تضمن اتهامات لحزب الاتحاد الديمقراطي في شمال شرق سوريا بأنه يقوم بإطلاق سراح عناصر داعش مقابل دفع أموال. وختامًا، وبالرغم من المساعي التي بذلتها أنقرة لتعزيز حضورها في واشنطن عبر دوائر الاستشارات والأبحاث الأمريكية، فإن ثمة إشكاليات جوهرية تواجه هذا الطموح التركي، ربما أهمها طبيعة السياسة الخارجية التركية خلال السنوات الأخيرة، وما تثيره من أزمات، وبالتالي خلق المزيد من القوى المعارضة لأنقرة، ناهيك عن أن هذه الأزمات قد تؤدي إلى فقدان تركيا بعضَ حلفائها في واشنطن، وخصوصًا إذا وجدت مؤسسات الاستشارات والأبحاث أن العلاقة مع تركيا ستحملها تكلفة باهظة.


الكلمات المفتاحية: