كُلفة السلام:
تداعيات ما بعد الحروب والصراعات في المنطقة

كُلفة السلام:

تداعيات ما بعد الحروب والصراعات في المنطقة



تكشف تقديرات دولية عن أن سوريا سوف تحتاج إلى نحو ٥ عقود، واليمن وليبيا إلى نصف هذه المدة تقريباً، لمعالجة آثار الدمار التي خلَّفتها الحروب الأهلية والحروب ضد الإرهاب والصراعات. ويبدأ احتساب هذه المدة مع وقف إطلاق النار الشامل كمدخل للاستقرار السياسي وإحلال السلام الأهلي. ومع الوضع في الاعتبار أن عمليات إعادة الإعمار التي ستمتد في حد ذاتها لعقود تالية إذا ما توافرت لها الأموال اللازمة، فإنها تظل أحد أبعاد المعالجة، فالسلام لا يعني فقط إعادة تأهيل البنية التحتية التي دمرتها الحروب والصراعات، أو معالجة الأوضاع الخدمية من التعليم والصحة والطاقة والصناعة وغيرها، أو حتى إنجاز الديمقراطية الانتخابية، بقدر ما تعني المعالجة الحقيقية عملية “تطبيع الحياة”، وهى الكُلفة الفعلية التي يجب وضعها في الاعتبار بحيث يمكن إعادة تأهيل المجتمعات التي تحملت التأثيرات الفعلية للصراعات.   

لقد وصلت كُلفة الصراع السوري حتى العام الجاري إلى نحو ٤٤٢ مليار دولار وفق تقديرات وكالة “الاسكوا” التابعة للأمم المتحدة، ويشمل هذا الرقم حجم الدمار الذي يبلغ نحو 117.7 مليار دولار، إضافة إلى فاقد الإنتاج المحلي الذي يصل إلى 324.5 مليار دولار. وتتراوح كُلفة إعادة الإعمار المطلوبة ما بين 250 إلى 400 مليار دولار، أى أن عملية إعادة الإعمار المادي فقط تتراوح ما بين ضِعف إلى ضِعفى حجم كُلفة دمار هذه البنية، فما هو الحال بالنسبة لباقي البنود الأخرى المتعلقة بتداعيات الحرب، فهناك ١٣.٤ مليون شخص في العام الجاري في سوريا في حاحة إلى الدعم الإنساني، نصفهم في حاجة ماسة إلى المتطلبات الإنسانية الأساسية. في اليمن، تجاوز عدد النازحين في مأرب خلال شهرين ١٨٠ ألف نازح جراء التصعيد الحوثي، فيما تتضاعف كُلفة الحرب في اليمن مرة تقريباً كل ثلاث سنوات، حيث قُدِّرت في عام ٢٠١٦ بنحو ١٥ مليار دولار، وصلت إلى ٢٨ مليار دولار في عام ٢٠١٩، وبنهاية العام الجاري ستتجاوز سقف ٦٠ مليار دولار. بينما يشير وزير التخطيط اليمني واعد باذيب إلى أن كُلفة الخسائر المباشرة للاقتصاد فقط- منذ سيطرة المتمردين الحوثيين على صنعاء- تصل إلى ٩٠ مليار دولار.

تحديات عديدة

يمكن القول إن كُلفة السلام لن تجبر كافة أضرار الحروب والصراعات، وقد تكون الأعلى والأطول زمناً، لكن هناك علاقة طردية بين معادلة الحرب والسلام، فكلما طالت الحروب والصراعات كلما تضاعفت كُلفة السلام، إذا ما كان هناك طلب على السلام من الأساس، وهو ما تعكسه عدة تحديات منها على سبيل المثال لا الحصر:

1- بدء عملية التسوية السلمية: التي تطوي صفحة الحروب الأهلية، ويمكن منها الانخراط في برامج إعادة تأهيل المجتمعات مرة أخرى. هذه النقطة لم تتحقق في معظم حالات الصراعات والأزمات، حتى تلك التي مرت أو لازالت في إطار عملية انتقال سياسي. فالمشهد العراقي بعد الانتخابات دال على هذا الاستنتاج، والمشهد الليبي محل شك، والمشهد اليمني لم يقترب منها بالأساس، والانتخابات السورية لم تحقق نقلة نوعية في عملية الاستقرار السياسي والاجتماعي حتى وإن كانت مؤشراً على استقرار النظام أو بقاءه، فضلاً عن التحديات الأخرى ذات الصلة مثل عمليات الإصلاح الأمني في ظل تنامي ظاهرة المليشيات والفصائل المسلحة، أو صعود أدوار الفاعلين من دون الدولة عموماً.

2- تشابك مصالح أطراف الصراع: فهذه المصالح خلقت بطبيعتها طبقات أو شبكات نفعية مستفيدة من استمرار حالة الفوضى، ويرى أطرافها أن مغانم الحرب أفضل من مكاسب السلام. فالجماعة الحوثية المتمردة في اليمن أصبحت تمثل النخبة الاقتصادية الأكثر ثراءاً في البلاد جراء هيمنتها على الاقتصاد الموازي الذي يعتمد على الجباية وإدارة السوق السوداء ومصادرة ثروات خصومها في مناطق السيطرة. كما تراكم المليشيات والفصائل المسلحة في العراق عوائد طائلة من إدارة الحدود والشركات التي تديرها في إطار نقل الخبرات الاقتصادية للحرس الثوري الإيراني. وفي ليبيا، قد يكون الاستنزاف أعلى للموارد الاقتصادية كبلد غني بالنفط، فالإقليم الجنوبي “فزان” الأكثر فقراً في ليبيا رغم وجود النفط، لكن الفوضى الأمنية خلقت مصالح متبادلة بين أدوات الفوضى من جماعات تهريب الأسلحة والهجرة غير الشرعية والتنظيمات المتطرفة، وبالتالي لن يخدم السلام بالأساس مصالح هذه الأطراف.  

3- صعوبة استنساخ التجارب السابقة: يصعب القول إنه من الممكن استنساخ التجربة الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، على سبيل المثال، في الحالة العربية، أو بالأحرى لا يمكن القول إن الدول التي دخلت دوامة الفوضى العنيفة يمكن إنقاذها من خلال مشروع مشترك مثل مشروع “مارشال”، مع ملاحظة أنه بعد الحرب الباردة وسقوط سور برلين ضخّت ألمانيا ضعف التمويل في شرق البلاد لكن لا تزال هناك فجوة هائلة مع الغرب. ربما ليبيا أقرب إلى هذا السياق، فبعد وقف إطلاق النار تحققت قفزات في إنتاج النفط وبالتبعية العوائد الاقتصادية، لكنها لم تنعكس إيجابياً على الوضع العام حتى الآن، بل إن إقليم الجنوب – فزان- لا يزال الأكثر فقراً ولم يتم تحسين وضعه، ولا يعتقد أنه يمكن انتشاله من هذا الواقع قبل حل معضلات جوهرية مثل معضلة الفوضى الأمنية. كذلك يمكن الإشارة إلى أن الصراعات فرضت تحديات إضافية، فالمتغيرات الديموغرافية، على سبيل المثال، لن تعيد تطبيع الحياة بسهولة، إذ تعيد تركيا السوريين إلى داخل الحدود السورية في إطار موازنة الوجود الكردي الذي تراه مُهدداً لها.

4- استمرار انعكاسات الأدوار الخارجية: في سوريا واليمن والعراق وليبيا، لن يكون هناك عامل استقرار دون وقف التدخل الخارجي، لاسيما من جانب القوى الإقليمية غير العربية. فلتركيا وجود عسكري في كل من سوريا والعراق وليبيا. لكن إلى جانب تداعيات التدخل العسكري، هناك تحديات أكثر صعوبة في ملفات أخرى مثل ملف المياه، بسبب بناء تركيا للعديد من السدود على الأنهار الممتدة مع سوريا والعراق. في التجربة العراقية، هناك ازدواجية في الهيكل الأمني، ومن الصعوبة بمكان القول إن ادماج “الحشد الشعبي” حقق عامل الاستقلال الوطني بالقدر الكافي. وفي ليبيا، فإن وجود المرتزقة والمقاتلين الأجانب بالإضافة إلى الفصائل المسلحة يشكل أكثر من تحدي للوصول إلى حالة السلم المطلوب، فضلاً عن أنه معوق رئيسي لإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية. ومع التوصل إلى تسوية في ليبيا، لم تتراجع تركيا عن هذا السياسة، كما لم تتراجع إيران عنها أيضاً في العراق رغم عدم وجود مبررات كافية لاستمرار تلك السياسة.

بدائل استراتيجية

ربما تفسر الكُلفة الهائلة لإحلال السلام صعود بعض الظواهر في التعامل مع الصراعات، كنهج إدارة الأزمات والصراعات. وبالتالي، فإن التساؤل الرئيسي الذي يفرض نفسه على أى سيناريو مستقبلي هو: هل يمكن تبني هندسة جديدة لتسوية الصراعات والأزمات تسمح بمعالجة التداعيات التي خلَّفتها قبل التوصل إلى تسوية سياسية شاملة باعتبارها طرحاً مُؤجَّلاً في العديد من الحالات، أو بمعنى آخر: هل يمكن إيجاد بدائل استراتيجية في ظل الصراعات والأزمات الممتدة؟.

هناك جدل كبير في هذه المساحة، ففي حالة اليمن، على سبيل المثال، طرح الوسطاء الدوليون ضرورة وقف الحرب لمعالجة المشكلات الإنسانية، لكن لم تستجب المليشيا الحوثية في ظل غياب أدوات ردع قوية تضطرها إلى التراجع. لكن في الوقت ذاته، من المتصور أن تطبيق اتفاق الرياض يشكل بديلاً استراتيجياً ممكناً لحل جزئي. كذلك في ليبيا، يمكن النظر إلى أن المسارات الثلاثة السياسي والاقتصادي والأمني المنبثقة عن خريطة التسوية في جنيف لم تعكس تقدماً شاملاً دون أن ينفي ذلك أن بعض المسارات شهدت تطوراً، فقد تقدم الملف الاقتصادي قبل أن يحدث إنجاز في الملف السياسي، بينما يتحرك الملف الأمني ببطء وبشكل حذِر.

في الأخير، من المتصور أن الاستثمار في الحروب والصراعات الإقليمية لا يزال هو النموذج الشائع، إذ لا تبالي بعض أطراف الصراع بالتداعيات والآثار الناجمة عن ذلك، بل تواصل تشغيل آلة الحرب لتحقيق أهدافها، وفي ظل غياب أفق واضح للانتقال إلى حالة السلام، من المتصور أن هناك حاجة للبحث عن بدائل استراتيجية بدلاً من التكيف أو التعايش مع حالة الصراعات والأزمات.