تحولات محتملة:
تداعيات رفض واشنطن سحب قواتها من العراق

تحولات محتملة:

تداعيات رفض واشنطن سحب قواتها من العراق



رغم إعلان العراق، في 5 يناير الجاري، أنها بدأت عملية سياسية تستهدف منها إنهاء مهمة التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية في العراق؛ إلا أن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) أعلنت، بعد ذلك بثلاثة أيام، أنها “لا تُخطط حالياً لسحب قواتها (البالغ عددها 2500 جندي) من العراق”، وذلك اعتماداً على أن “القوات الأمريكية موجودة في العراق بدعوة من الحكومة العراقية”.

وكما يبدو، فإن إعلان البنتاجون “عدم سحب” القوات الأمريكية، دون تحديد سقف زمني للتواجد العسكري الأمريكي هناك، سوف تكون له تداعيات مؤثرة على الداخل العراقي، بشكل يتضمن أبعاداً متشابكة، في مقدمتها المحاولة الأمريكية لتأكيد “قانونية” التواجد العسكري في العراق، وذلك كمقدمة لتوجه محتمل نحو تحويل هذا التواجد من مؤقت إلى دائم، فضلاً عما يُسببه هذا الإعلان من تصدع “سياسة التوازن” التي تتبعها حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، بين الوجود الأمريكي وبين الفصائل المسلحة العراقية، خاصة تلك المدعومة من إيران، والتي ترفض هذا الوجود الأمريكي.

أبعاد متشابكة

تتعدد أبعاد الإصرار الأمريكي على التواجد العسكري في الداخل العراقي وتتشابك، بناءً على إعلان البنتاجون الأخير، وذلك كما يلي:

1- الترويج لـ”قانونيّة” التواجد العسكري الأمريكي: يأتي الإعلان عن عدم سحب القوات الأمريكية من العراق بمثابة تأكيد من جانبها على “قانونيّة” هذا التواجد العسكري، من منظور أن القوات الأمريكية كانت قد دخلت إلى العراق بطلب من الحكومة العراقية، في يونيو 2014، وذلك عقب سيطرة تنظيم “داعش” على مساحات واسعة من البلاد. واللافت في هذا السياق، هو أن هذا التأكيد الأمريكي يأتي رغم أن العراق كانت قد أبرمت اتفاقية “الإطار الاستراتيجي” مع الولايات المتحدة الأمريكية، في عام 2008، وهي الاتفاقية التي انسحبت على أساسها القوات الأمريكية من العراق، في عام 2011.

2- تحويل الوجود المؤقت إلى وجود دائم: رغم الفارق الكبير بين حجم القوات الأمريكية الحالي، وبين ما كانت عليه هذه القوات في السابق؛ إلا أن الحفاظ على وجود دائم في العراق يُمثل أهمية كبرى بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية عموماً. ومن ثم تتضح الرغبة الأمريكية في “عدم سحب” القوات من العراق، بما يؤشر إلى السعى لتحويل الوجود العسكري المؤقت إلى وجود دائم في العراق.

واللافت في هذا الشأن، هو أن قاعدة “عين الأسد” في العراق، حسب بعض التقارير، تُعد قاعدة عملاقة من حيث البنى التحتية، بل وتتفوق تقنياً على قاعدة “إنجرليك” في تركيا بما يُمثل “ثلاثة أضعاف”، وهو ما يضيف صعوبات أمام أى انسحاب أمريكي محتمل منها، بالإضافة إلى أن مسألة انسحاب القوات الأمريكية من العراق لا ترتبط فقط بالعلاقات الأمريكية-العراقية، وإنما أيضاً بالموقف الاستراتيجي الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط بشكل عام.

3- تصدّع “سياسة التوازن” للحكومة العراقية: يبدو أن محاولات رئيس الوزراء محمد شياع السوداني وحكومته لإدارة حالة من التوازن فيما يرتبط بالصراع في الداخل العراقي، وخارجه أيضاً، بين واشنطن وطهران، قد بدأت تواجه معضلات عديدة، خاصة مع وصول التصعيد المتبادل بين الفصائل العراقية المسلحة الموالية لإيران، وبين الولايات المتحدة الأمريكية في العراق، إلى حدود غير مسبوقة مؤخراً.

وقد ظهر هذا التصدع بوضوح، بعد الهجوم الأمريكي الأخير، في 4 يناير الجاري، الذي استهدف القيادي في حركة “النجباء”، مشتاق السعيدي؛ إذ ظهرت تصريحات الحكومة العراقية لتُبين حجم الاستنفار الكبير لحلفاء إيران داخل العراق، خاصةً في بيانها الذي أكدت فيه أنها “تعمل على إنهاء مهمة التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في البلاد”.

4- تنامي الانقسام السياسي على الساحة الداخلية: رغم إبداء الحكومات العراقية المتتالية الرغبة في استمرار وجود دعم عسكري أمريكي متواصل في العراق، إلا أن عدداً من الفعاليات السياسية العراقية، خاصة تلك التي تربطها علاقات وثيقة مع إيران، تُعارض أي تواجد أمريكي، وتحديداً العسكري، من منظور انتهاء تهديد تنظيم “داعش”.

هذا الانقسام بشأن الوجود العسكري الأمريكي يتنامى في إطار “عدم قانونية” العمليات العسكرية الأمريكية ضد الفصائل العراقية المسلحة. إذ يعتمد المعارضون للوجود الأمريكي، وللعمليات العسكرية الأمريكية، داخل العراق، على وجوب إعطاء الدولة المُستقبِلة للقوات الأمريكية، وهي الدولة العراقية، “موافقة صريحة” والتعبير عن هذه الموافقة فعلياً، وهو ما لم يحدث، مُقارنة بالموافقة العراقية على العمليات العسكرية الأمريكية ضد “داعش”.

5- تصاعد مواجهة الفصائل للقوات الأمريكية: وهو الاحتمال الأرجح، في ظل إعلان البنتاجون الواضح “عدم سحب” القوات الأمريكية من العراق، إذ أصبحت الدعوات العراقية الداخلية، لا سيما من الجماعات والفصائل الشيعية، لانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية، مُرشحة للتصاعد، في ظل الإصرار الأمريكي على التواجد.

وكما يبدو، فإن مواجهة القوات الأمريكية من جانب تلك الفصائل سوف تتصاعد، من حيث اعتماد هذه الأخيرة على الاستشهاد بالقرار البرلماني -غير المُلزم للحكومة العراقية- بانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من العراق، هذا فضلاً عما تعتبره الفصائل العراقية من أن الوجود الأمريكي تحت مُسمى “الاستشارات والتدريب” ما هو إلا إصرار على التواجد لتحقيق أهداف مُتعددة ومختلفة.

6- تدعيم التقارب الأمريكي مع الإقليم الكردي: تأتي حكومة إقليم كردستان العراق ضمن أكثر الأطراف العراقية التي تُطالب باستمرار الوجود العسكري الأمريكي في العراق، وذلك اعتماداً على مُساندة القوات الأمريكية للإقليم، عندما وصل تهديد “داعش” إلى تخومه. هذا فضلًا عن طبيعة العلاقات المتميزة بين الإقليم والإدارات الأمريكية المختلفة.

وربما يعزز هذا التقارب من احتمال أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية، في حال اضطرت إلى الانسحاب من الداخل العراقي، بنقل قواعدها العسكرية ومستشاريها العسكريين إلى إقليم كردستان.

ورقة ضغط

على ضوء ذلك، يُمكن القول إن الإدارة الأمريكية الحالية، على خلاف الإدارة السابقة، ليست لديها الرغبة في الانسحاب العسكري من العراق، باعتباره من الأوراق المهمة في الضغط الأمريكي على إيران، في ظل تمدد الأخيرة في المنطقة، وفي عدد من دولها تحديداً، ومن بينها العراق. ونتيجة لعدم وجود توافق وطني عراقي داخلي على مسألة الانسحاب الأمريكي، يمكن ترجيح تزايد الاستقطاب السياسي العراقي حول هذه القضية تحديداً.

وبالتالي، يبدو أن التفاعلات الداخلية سوف تنطلق باتجاه فرض سياسات بعيدة عن مسار “التوازن” الذي كان مُتبعاً من قبل حكومة السوداني، خاصة أن وجود فصائل غير خاضعة لإرادة السلطة الحاكمة، يُمثل إشكالية كبرى للحكومة الحالية.