يمثل تصاعد نشاط عصابات تهريب المخدرات في سوريا، أحد التحديات الأمنية والأزمات المتفاقمة مع جيرانها، إذ إن هذا التصاعد قد يؤدي إلى استقطاب مزيد من شبكات الجريمة المنظمة العابرة للحدود، وعرقلة الأطراف الداخلية والخارجية المنخرطة في الصراع المسلح لمسارات التسوية السياسية، نظراً للاستفادة من عائدات تلك التجارة، بما قد ينعكس على عرقلة الانفتاح العربي مع النظام السوري. كما تبرز احتمالات تشكيل عصابات التهريب المحلية لشرعية موازية للدولة في المجتمعات التي تنخرط فيها، إضافة إلى التوسع في تشكيل شبكات تهريب إقليمية، واستقطاب عصابات إجرامية بدول الجوار للعمل في هذه التجارة.
إذ تتعدد الظواهر المصاحبة لحالات الصراعات العنيفة المسلحة، وتحديداً في حالات الحرب الأهلية أو المواجهات بين الدولة والفاعلين من غير الدول. ولعل أبرز الانعكاسات تصاعد عمليات التهريب العابرة للحدود، لاستغلال حالات الفراغ الأمني وعدم الاستقرار. ولا تُعد الحالة السورية استثناء من بناء شبكات التهريب، وبالأخص المخدرات، ويتخطّى تأثيرها الداخل السوري إلى التداعيات الأمنية الخطيرة على دول الجوار، والمحيط الإقليمي، خاصة مع تصاعد نشاط عصابات تهريب المخدرات، وبناء الشبكات الإقليمية.
مظاهر خطرة
رغم أن أزمة رواج تجارة المخدرات في سوريا، وتداعياتها الإقليمية، ارتبطت بتصاعد حالات العنف منذ سنوات؛ إلا أنه خلال الأعوام القليلة الفائتة برز تصاعد نشاط عصابات التهريب، في ضوء عددٍ من المؤشرات، أبرزها:
1– زيادة عمليات التهريب باتجاه الأردن: يتضح أن ثمة زيادة في عمليات التهريب عبر الحدود من سوريا إلى الأردن، إذ تشير بعض التقديرات إلى تنفيذ أكثر من 130 عملية تهريب، وضبط 132 مليون حبة كبتاجون، وزاد المعدل خلال عام 2021 إلى 361 محاولة تهريب. ومنذ مطلع العام الجاري، تمكنت السلطات الأردنية من ضبط نحو 20 مليون حبة كبتاجون من سوريا.
ووفقاً لإدارة مكافحة المخدرات في الأردن، فإنه منذ سبتمبر 2021 وحتى مطلع 2022، ارتفعت قضايا المخدرات في البلاد، بتسجيل 13 ألف قضية، إضافة إلى 3235 قضية تهريب وتوزيع.
2– مواجهات عنيفة مع القوات الأردنية: يبرز أن عصابات تهريب المخدرات تتجه إلى تصعيد المواجهات العنيفة مع القوات الأردنية التي تتولى ضبط الحدود، لمواجهة عمليات التهريب، خاصة مع اتجاه الأردن إلى تغيير قواعد الاشتباك على حدودها الشمالية مع سوريا.
وبدا أن ثمة اتجاهاً لدى عصابات التهريب إلى تصعيد حدة المواجهات العنيفة، في إطار رسالة باستمرار عمليات التهريب، خاصة أنه في بعض الحالات تتجه تلك العصابات إلى بدء إطلاق النيران على عناصر حرس الحدود الأردنية، بما يشير إلى الرغبة في استمرار عملية التهريب، وعدم العودة باتجاه العمق السوري، لتفادي المواجهات.
3– زيادة حجم تجارة المخدرات في الإقليم: تشير تقارير إعلامية إلى أن حجم تجارة المخدرات، وتحديداً “الكبتاجون” في الشرق الأوسط، وصل عام 2021، إلى أكثر من 5 مليارات دولار.
وفي مارس الفائت، فرضت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، عقوبات على 11 شخصاً في سوريا على علاقة بالنظام السوري، بفعل تورطهم في تجارة المخدرات، وتحديداً “الكبتاجون”، فيما نقلت تقارير إعلامية عن وزير بريطانيا لشؤون الشرق الأوسط، طارق أحمد، “أن تجارة الكبتاجون بلغت 57 مليار دولار”، محملاً المسؤولية لـ”رجال أعمال ومليشيات وأقرباء رئيس النظام بشار الأسد”.
4– تحول سوريا لدولة منتجة للمخدرات: مع طول أمد الصراع العنيف في سوريا على مدار أكثر من عقد من الزمان، تحولت سوريا من دولة ترانزيت فقط لاستقبال المواد المخدرة، للاستفادة من حالات الخلل الأمني المتفاقم، والصراع العنيف على السيطرة بين الجيش السوري ومليشيات إيرانية موالية له، إلى دولة مصنعة للمواد المخدرة، بما يعني سعي عصابات الجريمة المنظمة إلى محاولة توسيع دائرة دول الترانزيت في المحيط الجغرافي لسوريا، تمهيداً لعملية توزيع تلك المواد المخدرة. ويبقى أن الأردن إحدى الدول الرئيسية في هذا السياق.
5– تطور الأدوات لزيادة عمليات التهريب: في ضوء توسع نشاط تجارة المخدرات انطلاقاً من سوريا، فإن عصابات التهريب لجأت إلى تطوير أدواتها لتسهيل عمليات التهريب وتفادي الانكشاف على الحدود باتجاه الأردن، وهذا يتضح من خلال استخدام طائرات من دون طيار صغيرة الحجم، لنقل المخدرات عبر الحدود، لتفادي الاحتكاك المباشر مع القوات الأردنية، دون وقف عمليات التهريب التي تعتمد على اختراق عناصر تلك العصابات للحدود.
وفي السياق ذاته، فإن عصابات التهريب اعتمدت على استخدام مناظير للرؤية الليلية، لتسهيل عمليات التهريب، بما يشير إلى تدخل أطراف لتوفير تلك المعدات وربما غيرها لزيادة عمليات التهريب.
تداعيات محتملة
يؤدي رواج وتصاعد نشاط عصابات تهريب المخدرات انطلاقاً مع سوريا، إلى عدد من التداعيات الأمنية والسياسية والاجتماعية الخطيرة، التي لا ترتبط بسوريا فقط، وإنما تمتد إلى دول الجوار الجغرافي والمحيط الإقليمي لسوريا، وأبرز تلك التداعيات المحتملة:
1– استقطاب عصابات الجريمة المنظمة الدولية: بغض النظر عن مجموعة العوامل التي تدفع إلى تصاعد نشاط عصابات تهريب وتجارة المخدرات، إلا أن العامل الرئيسي يتمثّل في استمرار دائرة العنف لفترات طويلة، وهو ما يبرز في الحالة السورية، بما يجعل من منطقة الصراع العنيف جاذبة لعصابات الجريمة المنظمة الدولية العابرة للحدود.
وبالنظر إلى تصاعد نشاط عصابات التهريب في سوريا، فإنه يحتمل تدخل عصابات الجريمة المنظمة الدولية في تجارة المخدرات بسوريا، للاستفادة من العوائد المادية الكبيرة لهذه التجارة. ومع استمرار الأزمة السورية، يتوقع استمرار جذب تلك العصابات العابرة للحدود، والتي تعمل على مستوى قارات العالم بين أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، للاستفادة من حالة عدم الاستقرار في مناطق الصراعات المسلحة والتوترات الأمنية.
وتعتمد عصابات الجريمة المنظمة العابرة للحدود على رسم مسارات تهريب وتجارة المخدرات بين دول الصراعات المسلحة، بين مناطق التصنيع ومناطق “الترانزيت” تمهيداً لتوزيعها. وتكتسب سوريا أهمية خاصة حيث إنها لم تعد دولة “ترانزيت” فقط، ولكنها باتت دولة للتصنيع.
2– عرقلة الأطراف الداخلية مسارات لتسوية الأزمة السورية: تشير بعض التقديرات لعدد من المؤسسات الدولية ومراكز التفكير، مثل المركز النرويجي للتحليلات العالمية “RHIPTO”، إلى أن 28% من عائدات الجهات العنيفة من غير الدول والمنظمات الإرهابية بمناطق الصراعات، تأتي من تجارة المخدرات، وتأتي أغلب تلك العوائد من فرض “الضرائب أو الإتاوات” على عصابات التهريب، وليس من التجارة المباشرة في المخدرات.
وبالنّظر إلى الحالة السورية فإن تنظيمي “داعش” و”هيئة تحرير الشام” تورطا في تحصيل عائدات من تجارة المخدرات، إضافة إلى ضلوع مليشيات موالية للنظام السوري في تجارة المخدرات، واتهامات تطال شخصيات نافذة في النظام السوري بالتورط في تجارة المخدرات، في ظل الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها سوريا منذ الصراع المسلح؛ فإنه يحتمل عرقلة الأطراف الداخلية لمسارات التسوية السياسية للأزمة السورية، لاستمرار الاستفادة من عوائد تجارة المخدرات أو “الإتاوات” المفروضة على عصابات التهريب.
3– عدم استجابة أطراف خارجية للتسويات السياسية: تنقل تقارير إعلامية عن مصادر استخباراتية غربية وفي دول الجوار السوري، تورط أطراف خارجية في الأزمة السورية، في تجارة المخدرات، سواء من خلال علاقات إيرانية مع المليشيات الداعمة للنظام السوري والتي تورطت في تجارة المخدرات، إضافة إلى حزب الله، الذي يواجه الاتهامات ذاتها، رغم نفي الأمين العام للحزب حسن نصر الله التورط في تجارة المخدرات (مايو 2023)، عقب مقتل أحد تجار المخدرات في جنوب سوريا في عملية للجيش الأردني، وربطته تقديرات استخباراتية بحزب الله.
وفي حال صحة التقديرات الاستخباراتية، فإنه يتوقع عدم استجابة هذه الأطراف الخارجية إلى مسار التسويات للأزمة السورية، بحكم الاستفادة من عائدات تجارة وتوزيع المخدرات، وهو ما ينذر بعراقيل لأي تسويات مرتقبة للأزمة في سوريا، بصورة قد تؤثر على تجارة المخدرات، خاصة أن إيران تواجه عقوبات غربية، وبالتالي فإن التجارة غير الشرعية تمثل مصدراً اقتصادياً لها، وهو الحال بالنسبة لحزب الله، في ضوء الأزمات الاقتصادية التي تشهدها لبنان منذ سنوات.
وهنا، يمكن الإشارة إلى التقارير الاستخباراتية الغربية التي تربط بين إيران وحزب الله، وقيادة شبكة لتجارة المخدرات العابرة للحدود، تمتد إلى أمريكا الجنوبية وأفريقيا.
4– بناء الشرعية لعصابات الاتّجار المحلية: تُشير بعض الدراسات الغربية إلى ضرورة التمييز بين احتكار الدولة للعنف، وشرعية الدولة، باعتبار أن الأول لا يؤدي بالضرورة إلى تعزيز شرعية الدولة في مناطق الصراعات المسلحة، خاصة مع تراجع تلك الشرعية والسيادة على كامل إقليم الدولة، وهو ما يمنح شرعية للجماعات المسلحة التي تتحدى الدولة على مستوى المجتمعات المحلية التي تنخرط بينها.
وفي الحالة السورية، تمكنت الجماعات المسلحة التي تُصنف بالمعارضة، وتمارس العنف تحدياً لعنف وسيادة الدولة، من بناء شرعية لها، والسيطرة على بعض المناطق الجغرافية، وهو ما قد ينسحب على عصابات التهريب المحلية، التي تنخرط بين المجتمعات المحلية، وتوفر بفعل نشاطها غير الشرعي أموالاً يمكن أن تساهم في سد الاحتياجات الرئيسية لتلك المجتمعات، مع إمكانية التوسع في استقطاب أفراد من تلك المجتمعات المحلية للعمل في تهريب المخدرات، وصناعتها بالداخل السوري.
5– عرقلة التسويات الإقليمية مع النظام السوري: رغم أن تفكيك الشبكات الاقتصادية غير الشرعية، ومن بينها تجارة وتهريب المخدرات، يأتي في مرحلة لاحقة على التسويات السياسية والأمنية، المرتبطة بالصراعات العنيفة في الدول، باعتبارها أحد المظاهر الخطيرة لاستمرار العنف والصراعات المسلحة، إلا أنها قد تعرقل عمليات التسوية السياسية الإقليمية التي انخرطت فيها سوريا خلال الأشهر القليلة الفائتة، بالنظر إلى أن هذا أحد التحديات الأمنية الأبرز، وقضية ملحة مطروحة على مناقشات المسؤولين السوريين مع نظرائهم العرب.
ويمكن الإشارة إلى أنه على الرغم من الاستجابة السورية، والمناقشات بين مسؤولين سوريين، ونظرائهم في الدول العربية، والتي استبقت القمة العربية الأخيرة في السعودية، لعدد من الملفات الرئيسية، ومن بينها التهديدات الأمنية لتصاعد نشاط عصابات تهريب المخدرات انطلاقاً من سوريا، إلا أن ذلك يواجه مأزقاً يتخطى الرغبة إلى حدود القدرة للقضاء على تجارة المخدرات، في ضوء استفادة بعض الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية من رواج وتصاعد نشاط تجارة المخدرات.
- تزايد بناء الشبكات الإقليمية لتجارة المخدرات: قد يؤدي تصاعد نشاط عصابات تهريب المخدرات من سوريا، باتجاه دول المنطقة، إلى تزايد بناء الشبكات الإقليمية لتجارة المخدرات، واستقطاب مجموعات إجرامية في دول الجوار للانخراط في تجارة المخدرات، في ظل العوائد المالية لهذه التجارة غير الشرعية.
وهو ما يتضح من خلال زيادة عدد القضايا المترابطة بالمخدرات في الأردن، وفقاً لما سبقت الإشارة إليه. ومع استمرار تزايد نشاط عصابات التهريب، فقد يؤدي ذلك إلى تشكيل شبكات للاتجار والتهريب بين دول المنطقة، في ضوء روابط مع الشبكات الدولية لتهريب المخدرات.
معضلة متفاقمة
يتضح أنّ تصاعد نشاط عصابات تهريب وتجارة المخدرات يمثل معضلة أمنية متفاقمة، سواء بالنسبة لدول الجوار لسوريا، وبالأخص الأردن، التي يُعتقد أن هناك مساعي لتحويلها لدولة “ترانزيت”، تمهيداً لتوزيع المخدرات لدول إقليمية أخرى، وما يعقد الأزمة احتمالات عدم قدرة الدولة السورية على مواجهة هذا النشاط المتصاعد لعصابات التهريب، خاصة في ظل تداخل أطراف داخلية وخارجية مع هذه التجارة، بعضهم ربما يرتبط بالنظام السوري، وفقاً للرواية الغربية.
وفي ضوء هذه المعضلة، فإن دول الجوار الإقليمي لسوريا، وكذلك الدول العربية، تسعى لتحقيق تفاهمات مع النظام السوري، للترتيب لمواجهة هذا النشاط لعصابات التهريب، جنباً إلى جنب مع حالة الاستنفار الأمنية لمواجهة عمليات التهريب العابرة للحدود، مع زيادة الإنفاق على المعدات ووسائل تكنولوجية متطورة، من أجل إحباط عمليات التهريب على اختلافها.