معضلة مستدامة:
تداعيات الوجود العسكري الأجنبي على العملية السياسية في ليبيا

معضلة مستدامة:

تداعيات الوجود العسكري الأجنبي على العملية السياسية في ليبيا



شكّلت ظاهرة الوجود العسكري الأجنبي في ليبيا أحد أبرز عوامل عدم الاستقرار، وهناك علاقة طردية بين مستوى الوجود وإفشال محاولات إنجاح أية عملية سياسية في البلاد. فعلى الرغم من استمرار عملية وقف إطلاق النار التي تم التوصل إليها في أكتوبر 2020، إلا أن أحد استحقاقات العملية السياسية (عملية برلين) المتمثل في إنهاء هذا الوجود لم يدخل حيز التنفيذ، وبالتالي فإن فشل المرحلة الانتقالية التي تنتهي في 21 يونيو الجاري لا يتوقف فقط على عامل فشل الانتخابات التي كانت مقررة في 24 ديسمبر الماضي، وإنما على عدم نجاح كافة الاستحقاقات على التوازي.

تواجه الجهود التي تبذلها قوى عديدة من أجل احتواء الفشل الراهن في المرحلة الانتقالية الليبية، تحديات مختلفة، يأتي في مقدمتها الاقتصار على حل المشكلة السياسية دون غيرها، وهو ما يعني عدم الاستفادة مرة أخرى من دروس الفشل، والتي تتطلب حل مجمل المعضلات الراهنة على التوازي.

ففي هذا السياق، كشفت تقارير تركية عن طلب السلطات من البرلمان تجديد فترة وجود القوات العسكرية التركية في ليبيا لمدة 18 شهراً أخرى، ويعتقد أن قرار التجديد سيمرر من البرلمان كإجراء متوقع في ظل تنامي التعاون العسكري بين أنقرة وحكومة طرابلس، فقد أشارت تقارير ليبية إلى أن رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة ورئيس أركان القوات التابعة للحكومة محمد الحداد شاركا في فاعلية خاصة بإجراء مناورات في أزمير التركية في 9 يونيو الجاري، وأكدا استمرار هذا التعاون، كما لا توجد أية مؤشرات دالة على تغير وضع هذه القوات في القواعد العسكرية التي تتواجد فيها بغرب البلاد، بالإضافة إلى أن أنقرة لم تقم بسحب مجموعات من المرتزقة السوريين من ليبيا مع استمرار سياسة “الباب الدوّار” لاستبدال مجموعات المرتزقة.

وبالتزامن مع هذه التطورات، كشف تقرير خبراء الأمم المتحدة، في منتصف مايو الفائت، عن أن مجموعة “فاجنر” الروسية لا تزال تحتفظ بألفى عنصر في ليبيا بعد أن سحبت نحو ألف عنصر من إجمالي ثلاثة آلاف عنصر تقريباً كانوا موجودين في ليبيا خلال حرب طرابلس، مما يعني -وفق التقرير- أن الشركة المقربة من الكرملين لم تسحب عناصرها من ليبيا للمشاركة في الحرب الروسية-الأوكرانية؛ بل إن تقديرات دولية وأممية تؤكد أن روسيا ستحافظ على وجودها هناك، في إطار محاولة فرض توازن مع الوجود التركي، بل من المحتمل تعزيز هذا الوجود وليس تراجعه في الفترة المقبلة على إثر التوترات بين الطرفين في الساحة السورية بعد إعلان تركيا عن عملية عسكرية تتحفظ عليها روسيا، وهو ما اعتبرته تركيا محاولة لعرقلة العملية.

أسباب عديدة

يمكن القول إن ثمة أسباباً عديدة تفسر استمرار معضلة الوجود العسكري الأجنبي في ليبيا حتى الآن، يتمثل أبرزها في:

1- توسيع نطاق التمدد متعدد المستويات: بينما يتبارى الطرفان الروسي والتركي على هذا النحو في ليبيا، فإن كلاً منهما يسعى إلى تعزيز أدواره هناك. فبالإضافة إلى الوجود العسكري، سوف تستأنف روسيا عمل بعثتها الدبلوماسية من طرابلس، بينما انفتحت أنقرة هى الأخرى على شرق ليبيا. وتهدف هذه المساعي من الجانبين إلى دعم المصالح الاقتصادية لكل منهما، مع الإبقاء على قوة عسكرية أو شبه عسكرية تحافظ على هذه المصالح، بغض النظر عن التوترات السياسية أو الانحياز لطرف سياسي مقابل الآخر، فلدى تركيا علاقات مع رئيسَيْ الحكومتين الليبيين عبد الحميد الدبيبة في طرابلس وفتحي باشاغا في سرت، ولدى روسيا هى الأخرى علاقات مع الطرفين وإن كانت لا تعادل العلاقات التي تؤسسها تركيا. لكن إجمالاً تمثل هذه النقطة إشكالية، إذ إنه كان من المتصور أنّ تمديد روسيا علاقاتها مع غرب ليبيا، والعكس بالنسبة لتركيا مع شرق البلاد؛ قد يمثل دافعاً لتقليص وجودهما العسكري في ليبيا، لكن ما يحدث هو العكس، وهو ما يدل على أن الشريكين في سوريا وليبيا لديهما مساحة من التنافس تتعمق في تلك الساحات كلما طرأ متغير أو تعاظمت المصالح.

2- تعزيز أدوار قوى دولية أخرى: من المتصور أن اتجاه تعزيز النفوذ العسكري الأجنبي في ليبيا لا يقتصر على الطرفين الروسي والتركي، فقد تم تعيين كريس أوفلاهرتي ملحقاً عسكرياً بريطانياً في ليبيا، بعد أن تم افتتاح السفارة البريطانية رسمياً في طرابلس في 5 يونيو الجاري. وكشف لقاء جمع بين الحداد وأوفلاهرتي عن رغبة في تنامي هذه العلاقات العسكرية بين الطرفين. كما سبق واتخذت إيطاليا هى الأخرى خطوات من هذا القبيل تحت عنوان التعاون المشترك. لكن ثمة مؤشرات كاشفة عن رغبة أيضاً في زيادة الوجود العسكري الإيطالي الذي تُشير تقارير إيطالية إلى أنه وجود لوجيستي ليس أكثر. ومن الواضح أن الوجود الروسي والتركي يشجع بقية القوى الأجنبية الأخرى على زيادة تواجدها، بالإضافة إلى أن أغلب القوى الأجنبية التي تتواجد في 10 قواعد عسكرية في ليبيا استنتجت -على ما يبدو- في الأخير أن حالة الانقسام السياسي في ليبيا هى حالة مزمنة، وأن عليها أن تتعايش مع هذا الوضع، بغض النظر عن موقف القوى السياسية، بالإضافة إلى استمرار الانقسام العسكري بطبيعة الحال.

3- تأثير الصراع على جهود لجنة “5+5”: لم تترجم الإعلانات المتكررة من جانب لجنة “5+5” بشأن إنهاء هذا الأمر على أرض الواقع، فالصراع والانقسام السياسي الذي تشهده البلاد انعكس بدوره على عمل اللجنة، حيث جمدت اجتماعاتها لبعض الوقت على إثر استمرار حكومة الدبيبة في ممارسة مهامها بعد قرار البرلمان بإقالتها، وتعيين حكومة جديدة خلفاً لها، بالإضافة إلى استخدام رواتب العسكريين كورقة ضغط من جانب حكومة الدبيبة على القيادة العامة، ولم تستأنف اللجنة عملها إلا تحت ضغوط أممية.

وتشير اتجاهات عديدة إلى أن اللجنة ليست لديها صلاحيات تنفيذية، وأن الحكومات هى التي تتولى تنفيذ قراراتها؛ وهو ما يمثل عاملاً آخر لعرقلة أى إنجاز في هذا الملف، على نحو يوحي بأن هناك تشابكات معقدة من جانب آخر. فعملية توحيد المؤسسة العسكرية لن تتم إلا في أجواء سياسية مستقرة، وبالتبعية عملية إنهاء الوجود الأجنبي لن تتم إلا في ظل مؤسسات مستقرة. فعلى سبيل المثال، فإن البرلمان التركي يتخذ قرار تمديد الوجود التركي، بينما البرلمان الليبي أصدر أكثر من بيان يطالب بإنهاء الوجود العسكري دون أن يلقى صدى، في دلالة على أثر الوجود العسكري الأجنبي على السيادة الوطنية.

4- استمرار حالة الانقسام الداخلي: طالما أن القوى الليبية لا تسعى إلى إنهاء حالة الانقسام، فإن ذلك يعني أن الطلب على التواجد الأجنبي لدعم تلك القوى سيتزايد، وهو ما يمنح الوجود الأجنبي فرصة إضافية للبقاء في ليبيا، بشكل يفرض أزمة من جانب آخر. فعلى سبيل المثال، من المتصور أن عملية توحيد المؤسسة العسكرية لا تتوقف على التسريح والدمج، بقدر ما أصبحت هناك عوائق أخرى، منها تعدد المداخل العسكرية بحكم وجود أكثر من طرف أجنبي، فالقوات الليبية التي تتدرب على يد القوات التركية ستختلف عن نظيرتها التي تتلقى تدريبات من قوى أجنبية أخرى، مما يفاقم من حجم التحديات في هذا الملف.

متغير ضاغط

في الأخير، سيظل الوجود العسكري الأجنبي في ليبيا عامل ضغط سيؤثر على إمكانية إنجاز أية عملية سياسية، طالما أن هذا العامل أصبح جزءاً من معادلة الصراع والتنافس بين القوى المحلية، ومن الصعوبة بمكان تغيير هذه المعادلة إلا من خلال مبادرة ليبية تستعيد زمام الأمور، وهو أمر غير مرجح قبل التخلص من “أمراض” الحالة الليبية المزمنة، وفي المقدمة منها إنهاء الانقسام السياسي. وهناك فرصة مواتية إذا نجحت حوارات القاهرة للمسار الدستوري، بالإضافة إلى الحوار الجاري بين اللجنة العسكرية المشتركة، قبل انتهاء المرحلة الانتقالية في 21 يونيو الجاري، وفي حال إهدار هذه الفرصة فالتدخل العسكري الأجنبي سيكون أكثر مما هو عليه حالياً إذا ما استمر الانقسام السياسي ولم تتوافق الأطراف على السيناريو التالي بعد انتهاء المرحلة الانتقالية.