سياقات مختلفة:
تداعيات الدفع بمرشح كردي على رئاسة بلدية إسطنبول

سياقات مختلفة:

تداعيات الدفع بمرشح كردي على رئاسة بلدية إسطنبول



أعلنت “باشاك دمرطاش” زوجة المعارض الكردي المعتقل صلاح الدين دمرطاش نيتَها المنافسة على رئاسة بلدية إسطنبول خلال الانتخابات المحلية المقرر لها نهاية مارس المقبل. وتحظى باشاك بحضور لافت داخل حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب (الجناح السياسي للأكراد). وعلى خلفية ذلك، فإنه حال حسم ترشيح “باشاك”، فإن ذلك ربما يؤثر بشكل مباشر على نتيجة الانتخابات في هذه المدينة الأكثر أهمية في تركيا. وقد جاء الإعلان عن إمكانية الدفع بمرشحة كردية مع استمرار التهميش السياسي للأكراد، ومحاصرة نشاطهم السياسي، خاصة بعد التصويت الكردي لمصلحة مرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو في الانتخابات الرئاسية الماضية، وذلك تعبيراً عن رفضهم لبقاء الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية في صدارة المشهد.

بيئة معقدة

جاء الإعلان عن احتمال ترشيح زوجة الزعيم الكردي صلاح الدين دمرطاش لرئاسة بلدية إسطنبول في إطار جملة من السياقات المعقدة، يمكن بيانها على النحو التالي:

1- محاولة حظر حزب الشعوب الديمقراطي: جاء الحديث عن احتمال ترشح “باشاك” للمنافسة على رئاسة بلدية إسطنبول في ظل استمرار المضايقات السياسية للأكراد، وأبرزها تقديم حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، وحليفه حزب الحركة القومية، في يناير 2023 دعوة قضائية لإغلاق حزب “الشعوب الديمقراطي”. وبرغم تقديم أدلة تنفي ارتباط الحزب بــ”منظمة العمال الكردستاني” الذي تصنفه أنقرة إرهابياً، فقد رفضت المحكمة العليا في تركيا، بتاريخ 26 يناير 2023، طلب حزب الشعوب الديمقراطي تأجيل إصدار الحكم النهائي بحقه، وهو ما دفع الأكراد إلى استحداث تسمية جديدة تحت حزب “الديمقراطية والمساواة للشعوب”، والذي خاض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو الماضي، ويتوقع خوضه الانتخابات المحلية المقبلة.

2- تعزيز الضغوط على حزب العدالة والتنمية الحاكم: يعي الأكراد في تركيا أن إسطنبول تمثل أولوية سياسية للرئيس أردوغان، ليس فقط كونها تلعب دوراً محورياً في رسم السياسات العامة للبلاد خلال المرحلة المقبلة، بقدر ما تمثل أولوية اقتصادية واجتماعية لحزب العدالة والتنمية، حيث يوجد بها ما يقرب من 16 مليون صوت انتخابي. وهنا، يمكن فهم تأكيد الرئيس أردوغان أهمية استعادة زمام البلدية التي فَقَدَها حزب العدالة والتنمية في انتخابات العام 2019، وإعلانه في 7 يناير 2024 عن ترشيح مراد قوروم كمرشح حزبه العدالة والتنمية للمنافسة على رئاسة بلدية إسطنبول.

3- تفكك تحالف الأمة المعارض: يتزامن حرص الديمقراطية والمساواة للشعوب على الدخول في أتون معركة إسطنبول مع تفكك تحالف الأمة المعارض بعد هزيمته في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي شهدتها تركيا في مايو 2023. وبرغم أن انضمام الأكراد لتحالف الخصوم كان اضطرارياً لمواجهة الرئيس أردوغان، بيد أن الظروف التي دفعت الأكراد للتحالف في انتخابات مايو الماضي لم تعد تتوفر جميعها الآن، وإن ظل الهدف المشترك والمتعلق بمواجهة هيمنة حزب “العدالة والتنمية” قائماً. كما أن ثمة هوة كبيرة بين الأكراد وعدد من أحزب المعارضة، وبخاصة حزب “الخير” القومي الذي يعارض مطالب الأكراد، ويؤيد توظيف القوة المسلحة في مواجهة الطموحات الكردية.

4- استعادة الحاضنة الشعبية للأكراد: يبدو أن الإعلان الكردي عن احتمال الدفع بزوجة صلاح الدين دمرطاش لخوض انتخابات بلدية إسطنبول، يأتي في سياق استراتيجية جديدة لحزب الديمقراطية والمساواة للشعوب تستهدف إعادة تموضعه في السياسة الداخلية التركية خلال المرحلة المقبلة، من أجل استعادة هويته كحزب يساري معارض يدعو للديمقراطية والتعددية، ويعارض الممارسات السلطوية، فضلاً عن تعزيز هويته العرقية، بعد تراجع حاضنة حزب الشعوب والديمقراطية أوساط ناخبيه، وهو ما ظهر جلياً في الانتخابات التشريعية الأخيرة في مايو الماضي.

فقد حصد الحزب أقل من 9 بالمئة من أصوات الناخبين، وبواقع 61 مقعداً، وهو ما يمثل تراجعاً في رصيده التقليدي مقارنة بانتخابات العام 2018، حيث حصد الحزب الكردي نحو 12 في المئة من أصوات الناخبين، وبواقع 67 مقعداً، وهو ما يعني خسارة الحزب نحو 3 في المئة من مجموع أصوات الناخبين، أي ما يعادل 6 مقاعد برلمانية. ولذلك يواجه حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب في التوقيت الحالي تحدياً يتعلق بكيفية تحقيق اختراق حقيقي للتعافي من تراجع حاضنته الشعبية، وبخاصة أوساط قواعده التقليدية.

5- تصاعد العنف ضد أكراد الإقليم: تواصل أنقرة استخدام الأداة العسكرية ضد الأكراد في دول الإقليم، ويعبر عن ذلك التحركات العسكرية المكثفة في التوقيت الحالي في شمال سوريا ضد وحدات حماية الشعب الكردية، والضربات الجوية المستمرة على مناطق حزب العمال الكردستاني شمال العراق، وهو ما أثار غضب أكراد الداخل التركي. ويبدو أن ثمة قناعة لدى أكراد تركيا، بأن إصرار حكومة العدالة والتنمية على مواصلة عسكرة الأزمة ضد أكراد الخارج، يأتي في سياق استكمال الحرب التركية ضد الأكراد جنوب شرق تركيا، وتشويه صورتهم الذهنية في وعي الشعب التركي، باعتبارهم خطراً وجودياً يهدد الدولة ووحدة أراضيها.

تداعيات محتملة

يزداد الصراع على بلدية إسطنبول بين القوى السياسية التركية، وهو ما ظهر في حرص الحزب الحاكم على إعلان مرشحه لرئاسة البلدية مبكراً، بالإضافة إلى سعي أكرم إمام أوغلو الرئيس الحالي للبلدية، والمنتمي إلى حزب الشعب الجمهوري، لتعزيز حضوره في البلدية تمهيداً للانتخابات المقبلة، بيد أنه حال ترشيح “باشاك” المحسوبة على التيار الكردي، فإن ثمة تداعيات محتملة على مسارات العملية الانتخابية لبلدية إسطنبول، على النحو التالي:

أولها: أن دخول الأكراد على خط انتخابات إسطنبول قد يوفر بيئة خصبة لمرشح الحزب الحاكم، خاصة بعد تفتت تحالف المعارضة، للفوز بمقعد بلدية إسطنبول.

ثانيها: تراجع فرص الشعب الجمهوري لحسم انتخابات إسطنبول على غرار العام 2019، والذي كان الصوت الكردي نقطة الاستناد الرئيسية لمرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو.

وثالثها: يرتبط باحتمال حصول الأكراد على جملة من الامتيازات من السلطة الحاكمة، حيث يتوقع أن يساهم الترشح المحتمل للسيدة باشاك زوجة دمرطاش في تقوية أوراق حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب للحصول على مكاسب أكبر من حكومة العدالة والتنمية مقابل الانسحاب من العملية الانتخابية في إسطنبول.

ورابعها: زيادة سخونة العملية الانتخابية، وخلط الأوراق الانتخابية، ومن ثم غياب حسمها من الجولة الأولى، ففي الوقت الذي يتوقع فيه أن يذهب جانب معتبر من الصوت الكردي للسيدة “باشاك” حال ترشحها، بالنظر إلى تراجع مشاعر الولاء لحزب العدالة والتنمية في أوساط الكرد، جراء سلسلة من خيبات الأمل، وخاصةً في ظل استمرار تهميش تنمية المناطق الكردية جنوب شرق تركيا، ناهيك عن تصاعد عمليات الجيش التركي ضد الأكراد في سوريا والعراق؛ ففي المقابل لا يزال حزب العدالة والتنمية يحظى بحضور أوساط الإسلاميين الأكراد، وبخاصة المنتمين إلى حزب “الهدى بار” الكردي.

بوصلة محددة

ختاماً، يمكن القول إن الانخراط الكردي في الانتخابات المحلية لبلدية إسطنبول، ربما يزيد من تعقيد المشهد الانتخابي في البلدية، التي يدفع أردوغان بتوظيف كافة أوراقه لضمان استعادتها. وعلى الرغم من صعوبة مؤكدة في أن تحسم السيدة “باشاك” انتخابات البلدية حال ترشحها، إلا أن الصوت الكردي يمثل البوصلة التي ترسم بصورة كبيرة المسارات المحتملة للعملية الانتخابية، إذ إن نتيجة انتخابات البلدية تميل نتائجها عادة لصالح المرشح الذي يفضله الأكراد.