جلسة استماع:
” تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على الأمن الغذائي العربي”

جلسة استماع:

” تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على الأمن الغذائي العربي”



نظّم مركز «العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة»، بالقاهرة، بتاريخ 7 يونيو 2022، جلسة استماع بعنوان “تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على الأمن الغذائي العربي”. واستضاف المركز الأستاذ الدكتور نادر نور الدين، الأستاذ بكلية الزراعة جامعة القاهرة، ومستشار وزير التموين الأسبق (كمتحدث رئيسي في الجلسة)، كما شارك في الجلسة عدد من الخبراء والباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة، هم: الدكتور محمد عز العرب، والدكتور محمد عباس ناجي، والأستاذ أحمد عليبة، والأستاذ عمرو عبد العاطي، والدكتور حمدي بشير، والأستاذ كرم سعيد، والأستاذ محمد الفقي، والأستاذ هيثم عمران، والأستاذة ميرفت زكريا، والأستاذ علي عاطف، والأستاذة نادين محمد.

أبعاد الأزمة

يُحدد “نور الدين” عدداً من النقاط التي تمثل أبعاد الأزمة التي تعاني منها المنطقة العربية بفعل الحرب الروسية الأوكرانية من ناحية، وأبعاد متداخلة من ناحية أخرى، كان أبرزها:

1- معاناة الدول العربية من أزمة مياه: تُعاني المنطقة العربية من أزمة فقر مائي كبيرة، إذ إن موارد المياه قليلة للغاية، نستقبل 1% من نسبة الأمطار عالمياً، مقابل استقرار 5% من سكان العالم في تلك المنطقة، التي تعاني من جفاف، وارتفاع درجات الحرارة، بفعل التغيرات المناخية، بما يعني استنزاف إنتاج الغذاء على كمية كبيرة من المياه، مقارنة بمناطق أخرى باردة مناسبة للزراعة دون إهدار كميات كبيرة من المياه، أو تستقبل كميات كبيرة من الأمطار، أو تمتلك أنهاراً غزيرة. وبالنظر إلى الدول التي توجد بها أنهار، مثل مصر والعراق وسوريا على سبيل المثال، فإنها تعاني جراء بناء السدود وتهديد الحصص المائية لتلك الدول، سواء السدود التي تبنيها تركيا أو بفعل سد النهضة الإثيوبي.

2- استيراد العرب أغلب السلع الاستراتيجية: تستورد الدول العربية إجمالاً ما نسبته نحو 65% من الأغذية الأساسية والسلع الاستراتيجية من الخارج (الحبوب والزيوت بكل أنواعها) دون حساب الفواكه والخضروات، وللتقريب تستورد الدول العربية نحو 25 سلعة غذائية نستخدمها يومياً، إذ تُعد أكبر منطقة في العالم تستورد الغذاء، بفعل الفقر المائي كأحد العوامل الرئيسية، إضافة إلى تراجع الإنتاجية الزراعية، وعدم استخدام الطرق الحديثة في الزراعة والري وتخلّفها عن الركب العالمي. في المقابل، هناك دول تستخدم التكنولوجيا الحديثة في الزراعة من أدوات وآلات، إضافة إلى استخدام طرق الزراعة الذكية، بالاعتماد على “الدرونز”.

3- ارتفاع أسعار الطاقة عالمياً: كنتيجة للحرب الروسية الأوكرانية، وبفعل العقوبات الأمريكية الأوروبية المفروضة على روسيا، ارتفعت أسعار الطاقة عالمياً بصورة كبيرة، منذ بدء العمليات العسكرية، وما ترتب عليها من زيادة تكلفة الشحن للمواد الغذائية، وبالتبعية زادت أسعار الدواجن واللحوم الحيوانية، ليضاعف من أعباء زيادة أسعار السلع الغذائية الاستراتيجية التي زادت بفعل تلك الحرب. وسبق أن شهدت أسعار المنتجات الغذائية زيادة كبيرة في الأسعار خلال عام 2010، بعدما وجهت بعض الدول إنتاجها من المحاصيل الزراعية لإنتاج الوقود الحيوي ليكون منافساً لمصادر الطاقة البترولية، في إطار رغبة غربية في التحرر من سيطرة العرب على البترول.

4- محورية روسيا وأوكرانيا في سلاسل توريد الغذاء: تُعد روسيا وأوكرانيا من كبار منتجي الغذاء في العالم. وبعد دخولهما في مواجهة عسكرية على خلفية إصرار روسيا على بقاء أوكرانيا على الحياد مع الغرب، ورفض انضمامها لحلف الناتو، فقد كان لذلك أثر كبير على سلاسل التوريد في العالم، وتحديداً في المنطقة العربية، خاصة أن الدول العربية تعتمد على استيراد الحبوب والغذاء من روسيا بنسبة 80% إلى 90%، خاصة أن الدولتين تتحكمان في 32% من حجم المساهمة في الغذاء، ولعل بعض الأرقام التالية توضح تأثيرات الحرب على المنطقة العربية، إذ يُساهم البلدان بنحو 32% من تجارة القمح عالمياً، و37% من تجارة الشعير، و17% من تجارة الذرة الصفراء، و73% من تجارة زيت عباد الشمس.

5- تحكم روسيا وأوكرانيا في إنتاج الأسمدة: ثمة بُعد مهم من أبعاد الأزمة يتعلق بزيادة مساهمة الدولتين في إنتاج الأسمدة عالمياً، من خلال المساهمة بنسبة 15% من تجارة الأسمدة النتروجينية وهي الغذاء الأساسي للنبات، وبنسبة 17% من تجارة الأسمدة البوتاسية المهمة لنضج المحاصيل وتحسين نوعيتها. وأمام فرض العقوبات وتعطل حركة الملاحة، فإن هذا يعني أن الأزمة لا تقف عند حد أزمة سلاسل التوريد فقط، وإنما تمتد إلى صناعة الأسمدة، وهي ضرورية إذا قررت بعض الدول العربية مثل مصر زيادة حجم رقعة الأراضي المستصلحة، مع الأخذ في الاعتبار حصة روسيا الكبيرة في تجارة الغاز عالمياً، وتحديداً على مستوى أوروبا، وهذا الغاز يتحكم في صناعة الأسمدة والمبيدات ومنظمات وهرمونات النمو والتصنيع الغذائي.

تداعيات مؤثرة

ويتطرق “نور الدين” إلى التداعيات الرئيسية للحرب على الأمن الغذائي العربي، التي برزت خلال الفترة الماضية، وهي كالتالي:

1- التحول من التبعية الغذائية إلى التبعية السياسية: في ضوء الأزمة التي يشهدها العالم في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، ظهرت محاولات “تسييس” ملف الغذاء، وربما يفسر هذا عدم اتخاذ دول عربية موقفاً ضد روسيا، كما أن روسيا أعلنت أنها لن تبيع الغذاء إلا للأصدقاء فقط، بما يعني أن التبعية الغذائية ستتحول إلى تبعية سياسية، إذ إن القمح بات غذاء وسلاحاً كما قال هنري كيسنجر: “نحن نزرع القمح كسلاح وغذاء”. في الاتجاه المقابل، على مستوى أمريكا وأوروبا، فإن الكويت اشتكت من توجيه الولايات المتحدة شحنات قمح في طريقها للكويت إلى دول أوروبية، بما يعني أن الأولوية لصادرات الغذاء ستكون لأوروبا، والدول العربية تأتي في مرتبة متأخرة.

2- ظهور أزمات في سلاسل توريد الغذاء: يتضح أن ثمة أزمات في توريد سلاسل الغذاء من دول ومناطق بديلة عن روسيا وأوكرانيا، لاعتبارات من بينها، أولاً: بُعد المسافة بين الدول البديلة والدول العربية. على سبيل المثال، تستغرق عملية إبحار الشحنات من أمريكا وكندا نحو 24 يوماً، ونحو 28 يوماً من الأرجنتين، مقابل 10 أيام فقط من روسيا أو أوكرانيا، بما يؤثر سلباً على المخزون الاستراتيجي لبعض الدول، وطول فترة وصول الشحنات، إضافة إلى عبء زيادة الأسعار بعد ارتفاع أسعار النفط، بفعل طول المسافة بين الدول البديلة والمنطقة العربية. وثانياً: أن بعض الدول التي تنتج القمح مثل الصين والهند، توجه جزءاً كبيراً من إنتاجها إلى الداخل، في ظل عدد سكانها الكبير، فضلاً عن عدم صلاحية استخدام بعض شحنات القمح من الهند على سبيل المثال.

3- انعكاسات داخلية محتملة لارتفاع الأسعار: يمكن أن يؤدي ارتفاع أسعار السلع الغذائية في ضوء جملة العوامل السابق الإشارة إليها، إلى اضطرابات داخلية في بعض الدول. فعلى سبيل المثال، فإن السبب الرئيسي للاضطرابات التي تشهدها دولة مثل لبنان هو ارتفاع أسعار المواد الغذائية وليس توافرها، حيث يمكن أن تكون السلع متوافرة ولكن أسعارها مرتفعة، وهذا لا يتفق مع مفهوم “الإتاحة” الذي يشير إلى أولوية خفض الأسعار لكي تكون السلع في متناول جميع الفئات، ولا تقتصر القدرة الشرائية على الأغنياء فقط.

4- تأثيرات متباينة على الدول العربية: هناك تأثيرات متباينة لأزمة الأمن الغذائي على الدول العربية، أولاً: معاناة مضاعفة لدول الأزمات، فنظراً إلى أنّ بعض الدول التي تشهد أزمات لفترات طويلة تكون أكثر عرضة لمعاناة مضاعفة، مثل اليمن الذي يشهد وضعاً معقداً للغاية في ظل عدم إنهاء الحرب هناك، فإن برنامج الغذاء العالمي يسعى لمواجهة الوضع السيئ بالأساس، وربما يستمر في عمله في ظل الأزمة الحالية. ثانياً: تراجع معدلات التنمية في بعض الدول، ويمكن ملاحظة إمكانية تراجع معدلات التنمية في بعض الدول خلال الفترة المقبلة، في ضوء الضغوط الشديدة بفعل ارتفاع أسعار الطاقة والسلع الغذائية. ثالثاً: تأثير أقل للدول النفطية، يؤدي ارتفاع أسعار الطاقة عالمياً في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، إلى مكاسب للدول العربية النفطية، وبالتالي تعزيز القدرة على مواجهة أزمة الغذاء.

سياسات جديدة

يقترح “نور الدين” عدداً من الرؤى والتوصيات لمواجهة أزمة الغذاء وارتفاع الأسعار بفعل الحرب الروسية الأوكرانية، كالتالي:

1- العودة إلى تنويع مصادر استيراد الغذاء: على الدول العربية الاتجاه إلى العودة لتنويع مصادر استيراد الغذاء من مختلف الدول المصدرة، وعدم الاعتماد على مصدر أو مصدرين فقط من تلك الدول، ومن ذلك -على سبيل المثال- أستراليا وفرنسا ورومانيا والمجر وكندا والولايات المتحدة والأرجنتين والبرازيل والهند. ولا يتصل ذلك بالأزمة الحالية فقط، ولكن سبق أن تعرضت روسيا خلال عام 2011 لأزمة جفاف وحرائق غابات أدت إلى تعطل إتمام اتفاقيات التوريد.

2- ضرورة الاعتماد على الصناعة: لا بد قبل الحديث عن التوسع في استصلاح الأراضي الزراعية من دراسة الجدوى من الاستثمار الزراعي أولاً، خاصة وأن عوائد الاستثمار الزراعي قليلة للغاية مقارنة بعوائد الصناعة، التي يمكن أن تعزز من قدرة الدول على شراء الغذاء دون مواجهة أي أزمات مادية؛ إذ إن الاستثمار الزراعي يستنزف الأموال والمياه على حد سواء.

3- الاعتماد على سياسات زراعية حديثة: تنفق الدول العربية مبالغ صغيرة على البحث العلمي، ولكن يجب توسيع الإنفاق في هذا المسار، لتحسين التقاوي الزراعية لزيادة الإنتاجية، إضافة إلى الاعتماد على الطرق الحديثة في الري والزراعة التي توفر إنتاجاً كبيراً للعاملين. ففي مصر -مثلاً- يكون إنتاج العامل 500 دولار سنوياً، مقابل 5000 دولار سنوياً في السعودية، وذلك بسبب زيادة الإنفاق على العمالة بفعل استخدام الطرق القديمة في الزراعة، في حين أن دولة مثل الولايات المتحدة يقدر إنتاج العامل فيها بـ23 ألف دولار سنوياً.

4- استبدال زراعة الخضروات بالسلع الاستراتيجية: التوجه إلى استبدال المساحات المخصصة لزراعة الخضروات والفواكه أو المحاصيل التي يتم تصديرها للخارج كما هو الحال في مصر، وتخصيص تلك المساحات لزراعة السلع الاستراتيجية بتنوعها، إذ لا يُعقل زراعة بعض المحاصيل التي تستخدم كغذاء للحيوان بنسبة أكبر من زراعة القمح، وهو سلعة استراتيجية هامة.

5- الدفع باتجاه خفض النمط الاستهلاكي: بشكل عام، يصعب تغيير النمط الاستهلاكي للشعوب، فهناك بعض الدول التي اعتادت أنواعاً معينة من الغذاء، وتثبت التجارب فشل تحويل هذا المزاج إلى سلع غذائية أخرى، فالاعتماد على رغيف الخبز سمة أساسية في دولة مثل مصر، وبالتالي فإن الأفضل هو الدفع باتجاه خفض النمط الاستهلاكي، وإن كان هذا سيحدث في ضوء ارتفاع أسعار المواد الغذائية.

رؤية مستدامة

أخيراً، يتطرق “نور الدين” إلى ضرورة اتخاذ الدول العربية موقفاً مجمعاً للتعامل مع ملف الأمن الغذائي حتى بعد انتهاء الحرب الروسية الأوكرانية، لعدم مواجهة مثل تلك الأزمة مجدداً في مواقف مماثلة للتخلص من التبعية الغذائية التي تتحول إلى تبعية سياسية، عن طريق حسم موقفها إما بالعودة للبورصات العالمية أو الاتجاه إلى الاستثمار في الأراضي الزراعية في بعض الدول مثل كندا وغيرها، قبل أن يشير إلى أن أي تصعيد بين الصين وأمريكا فيما يخص تايوان قد يزيد من أزمة الغذاء العالمي، على الرغم من أن الصين تحتفظ بإنتاجها من القمح للاستهلاك المحلي، ولكن التوتر سيؤدي إلى زيادة أسعار الطاقة، وبالتبعية زيادة أسعار الغذاء.