محددات ضاغطة:
تداعيات الحرب الأوكرانية على النفوذ الروسي في المنطقة العربية

محددات ضاغطة:

تداعيات الحرب الأوكرانية على النفوذ الروسي في المنطقة العربية



لم تكن المنطقة العربية، ومحيطها الشرق أوسطي، استثناءً من التأثر بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، التي أكملت عامها الأول، إلا أن هذه التداعيات لم تقتصر على دول المنطقة، رغم أهمية ذلك، بل امتدت إلى سياسات القوى المعنية بها والمنخرطة في أزماتها، وفي مقدمتها روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى القوى الأوروبية والصين. ورغم ظهور بعض المؤشرات على تعثر النفوذ الروسي في مواقع النفوذ التقليدي بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن هذه التعثرات، التي انتابت علاقات روسيا مع شركائها بالمنطقة منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، لا تعني بالضرورة تراجع موسكو عن محاولات تنمية نفوذها في هذه المنطقة الحساسة بالنسبة لأوروبا والقوى الغربية، بل، على العكس من ذلك، هناك ثمة مؤشرات على سعي روسي حثيث بالعودة بقوة إلى المنطقة.

اللافت، أن أهم المؤشرات الخاصة بالسعي لممارسة النفوذ الروسي في المنطقة تتعلق بالجولات التي قام بها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى العديد من الدول العربية منذ بداية الحرب الأوكرانية؛ بهدف الإعداد للقمة الروسية الأفريقية الثانية، المُقررة في يوليو المقبل، في سانت بطرسبورغ. وكما يبدو، فقد وضع لافروف عواصم بلدان شمال إفريقيا في صلب جولته، من القاهرة مروراً بطرابلس والجزائر، ثم الرباط، وصولاً إلى نواكشوط، هذا فضلاً عن الخرطوم، إذ تقع هذه الدول في موقع استراتيجي بالقارة الأفريقية، وفي خاصرة أوروبا التي تخوض موسكو منافسة “جيوسياسية” شرسة معها ومع الولايات المتحدة الأمريكية.

تأثيرات متعددة

أعادت الحرب الأوكرانية الاعتبار مُجدداً إلى المنطقة العربية، وثقلها بالنسبة إلى تقاطعات الاستراتيجيات الدولية حولها، وزادت من أهمية بعض القوى الإقليمية العربية وغير العربية في الرؤية الاستراتيجية للقوى الدولية، وفي مقدمتها روسيا والولايات المتحدة. بل إن العام الفائت منذ بداية الحرب في أوكرانيا، قد كشف عن عدد من التأثيرات على الدول العربية في ظل المحاولات الروسية الرامية إلى استعادة نفوذها في المنطقة، ولعل أهم هذه التأثيرات يمكن تناولها في الآتي:

1- عودة الاهتمام الأمريكي بالمنطقة العربية: طوال عقود ظلت المنطقة العربية ساحة تنافُس على المصالح والنفوذ بين الولايات المتحدة وروسيا، واستمر ذلك حتى انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وتراجع مستويات الانخراط الأمريكي في صراعات المنطقة منذ وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض في يناير 2021.

إلا أن العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، وما فرضته من ارتفاع في أسعار النفط لمستويات غير مسبوقة طوال 14 عاماً مضت، دفعت إدارة جو بايدن إلى تغيير المُقاربة الأمريكية تجاه المنطقة، وبدا أن الولايات المتحدة بدأت تضع في قمة أولوياتها مواجهة نفوذ روسيا والصين المتزايد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ ذلك الذي انعكس في تبني الدول العربية مواقف مُحايدة، أو غير مؤيدة لمحاولات عزل روسيا دوليّاً. وقد تبدَّى التغير في موقف الإدارة الأمريكية بوضوح عبر ما جاء في كلمة الرئيس الأمريكي بايدن، في خلال قمة جدة للأمن والتنمية التي عُقدت في 16 يوليو الماضي، بأن “الولايات المتحدة لن تترك فراغاً في المنطقة لتملأه روسيا والصين وإيران”.

2- توسيع الشراكات الروسية مع الدول العربية: بسبب تصاعد حدة الضغوط الغربية على روسيا، نتيجة الحرب في أوكرانيا، قامت روسيا بمحاولة تنمية نشاطها الدبلوماسي في المنطقة، والشرق الأوسط عموماً. ففي أعقاب الزيارة الأولى للرئيس بايدن إلى المنطقة، خلال الفترة 13-16 يوليو الماضي، قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزيارة إلى إيران في الـ19 من الشهر نفسه، وتضمنت انعقاد قمة ثلاثية، شملت الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي والتركي رجب طيب أردوغان.

ولم يتوقف النشاط الدبلوماسي الروسي عند زيارة بوتين، ولكن أعقب هذه الأخيرة زيارة سيرغي لافروف إلى المنطقة خلال الفترة من 24: 28 من الشهر نفسه، شملت مصر وبعض الدول الإفريقية (إثيوبيا وأوغندا والكونغو الديمقراطية)، بل إن لافروف كان قد ألقى خطاباً في جامعة الدول العربية في 24 يوليو الماضي أثنى فيه على “المواقف المتوازنة التي اتخذتها الدول العربية تجاه الأزمة في أوكرانيا”.

وكما يبدو، فهذا التصاعد في النشاط الدبلوماسي إنما تستهدف منه روسيا توسيع شراكاتها السياسية والاقتصادية مع الدول الحليفة لها والمؤيدة لموقفها في أوكرانيا، وكذلك دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي تتبنى مواقف مُحايدة أو رافضة للمُقاربة الأمريكية تجاهها في أعقاب الحرب الأوكرانية. هذا فضلاً عن محاولات روسيا في تأكيد إخفاق السياسات الأمريكية والأوروبية التي تهدف إلى عزلها دوليّاً، ولا سيما في هذه المنطقة الاستراتيجية من العالم.

3- تعزيز التحرك الروسي على محور “مثلث الأزمات” العربية: يمكن اعتبار عام 2015 من أهم محطات السياسة الروسية تجاه المنطقة بدخولها عسكريّاً إلى سوريا، وتدشين قواعد عسكرية لها في حميميم وطرطوس على ساحل البحر المتوسط، وهي أقرب نقطة ممكنة من الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي “ناتو”. ومع الحرب الأوكرانية وتداعياتها، سوف تعمل روسيا على ضمان أن تُصبح سوريا من أهم نقاط الارتكاز الروسي في المنطقة إلى أجل غير مُسمى.

ويتوازى مع هذا السعي، المحاولة الروسية في توفير قاعدة لوجستية في بورتسودان، تمت الإشارة إليها في أثناء زيارة لافروف إلى الخرطوم، الأربعاء 8 فبراير، وهي القاعدة التي تُعد مرحلة أولية أمام مشروع طويل الأمد تطمح روسيا من خلاله إلى تأمين الارتكاز البحري لموسكو في السودان، مما يساهم في إمكانية التأثير على عمليات النقل للتجارة الدولية في البحر الأحمر، وهو ما يعني فرض روسيا نفسها بوصفها “لاعباً متحكِّماً” في معادلات الطاقة الجديدة التي يمر جزء كبير منها عبر مضيق باب المندب. إضافة إلى ما يُمكن أن تُتيحه هذه القاعدة اللوجستية من تعزيز الأسطول الروسي لموقعه البحري في المحيط الهندي؛ ما يوفر مرفقاً آخر للمياه الدافئة، إلى جانب قاعدة طرطوس في سوريا، حيث يسمح ذلك للسفن الروسية بالمرور عبر خليج عدن والبحر الأحمر بهدف تأمين الإمدادات والخدمات اللوجستية المختلفة.

ثم يأتي الوجود الروسي في ليبيا ليؤشر على التحرك الروسي في محيط “مثلث الأزمات العربية”، إذ يمكن قراءة إعلان الكرملين بتعيين سفير روسي جديد في طرابلس في نهايات العام الماضي، 29 ديسمبر 2022، أنه مؤشر على محاولة روسية لاستباق متغيرات محتملة في هذا البلد المغاربي، تؤدي إلى تسوية أزمته السياسية والأمنية منذ أكثر من عقد من الزمان.

4- محورية تأثير “أوبك بلس” على ملف الطاقة العالمي: بينما تُعاني الدول الأوروبية تراجع إمدادات الطاقة الروسية، في أعقاب الحرب في أوكرانيا، بدأ بعضها في البحث عن مزيد من الإمدادات من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وبالفعل، وقَّعت دول عديدة اتفاقيات مع الدول العربية المُنتجة للغاز، لتعزيز التعاون في مجال الطاقة؛ منها كمثال إيطاليا، التي وقعت اتفاقية مع الجزائر، أصبحت بموجبها إيطاليا المورد الرئيس للغاز الجزائري إلى أوروبا.

على الجانب الآخر، سيصبح اتفاق “أوبك بلس” من المسلَّمات بالنسبة إلى العلاقات الخليجية الروسية، كونه أثبت فاعلية قوية خلال الحرب الأوكرانية، بل إن روسيا ذات الإنتاج النفطي والغازي الضخم بالتعاون مع الإمارات والسعودية، وإذا قررت مصر هي الأخرى، كإحدى أهم دول مجموعة غاز شرق المتوسط، أن تقف موقفاً قريباً من روسيا؛ فإن العالم يكون قد أصبح رهن قرارات هذه المجموعة.

إذ إن تعاظم الدور الذي يُشكله تحالف “أوبك بلس”، والذي تُعد روسيا أحد أهم أعضائه، فضلاً عن الدول الرئيسة المُنتجة للنفط ضمن “أوبك”، خصوصاً الدول العربية الخليجية، تعاظم هذا الدور قد يوجه مسار العديد من الأزمات حول العالم، ويشكل أداة ضغط مفيدة لصالح هذا التحالف، الذي يتشكل من أكبر الدول المنتجة للنفط.

5- منافسة القوى الغربية في مناطق نفوذها التقليدي: في الحالة الخليجية، يمكن الإشارة إلى أن الحرب الأوكرانية ليست الفاعل الأصلي في مسيرة العلاقات الروسية الخليجية ومستقبلها، بقدر ما يُمكن وصفها بأنها من “مُسرِّعات” تحفيز وتعميق هذه العلاقات التي بدأت تتحسس طريقها بشكل لافت. ومن ثَم، فإن مُستقبل العلاقات الروسية الخليجية قد يبدو أكثر فاعلية، وذلك بناءً على مُخرجات الموقف الخليجي، وخاصة الإمارات، من الحرب الأوكرانية.

أما في المنطقة المغاربية، تراهن موسكو على تمتين علاقاتها التقليدية مع حلفائها في الجزائر وليبيا، وتُدشن منذ سنوات نهجاً براغماتيّاً للتقارب مع الدول الحليفة للغرب، أو القريبة منه سياسيّاً، مثل مصر والمغرب، إذ شهدت العلاقات الروسية مع البلدين نموّاً ملحوظاً. ولا تقتصر حسابات روسيا على منافسة القوى الغربية في مواقع نفوذها التقليدي فقط، بل تضع أيضاً في حسبانها اللعب على وتر التناقضات بين دول شمال إفريقيا وصراعاتها الإقليمية، ومن أبرزها ملف الصحراء الغربية والنزاع الجزائري المغربي حولها.

انعكاسات محتملة

في هذا السياق، يمكن القول إن مستقبل النفوذ الروسي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بتأثير من تداعيات الحرب الأوكرانية، وإن كان يحكمه عدد من “المحددات الضاغطة”، إلا أنه يؤشر إلى مجموعة من الانعكاسات المحتملة، يأتي في مقدمتها: المحاولة الروسية لضمان استدامة النفوذين العسكري والسياسي الروسيين على البحر المتوسط، ومحاولة التمدد عبر البحر الأحمر إلى بورتسودان.

أضف إلى ذلك، أن السعي الروسي لإيجاد تعاون استراتيجي مع دول الشرق الأوسط والخليج العربي سيظل من أهم الأدوات التي سيتم تعظيم الاستثمار فيها مستقبلاً، بعد أن أثبتت الحرب الأوكرانية أهمية الغاز والنفط بوصفها “أدوات ردع” وتوجيه لمسار الأزمة، تحت وقع عدم استقلال الدول المستوردة للطاقة. هذا فضلاً عما تبدَّى بوضوح لدى روسيا من أهمية العودة إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إذ أصبحت فاعلاً في سوريا وليبيا، وإلى حد ما في السودان، وذات علاقات جيدة مع الإمارات ومصر والجزائر، ومساحات لا بأس بها مع تركيا، وتقارب استراتيجي مع إيران. ومن ثَم، ستعمل روسيا على تطوير وجودها في المنطقة، كونها إحدى أهم المناطق الاستراتيجية ذات الأثر الجيوسياسي المهم في إدارة العديد من الأزمات الدولية.