نصف عام:
تداعيات الحرب الأوكرانية على المنطقة بعد ستة أشهر من اندلاعها

نصف عام:

تداعيات الحرب الأوكرانية على المنطقة بعد ستة أشهر من اندلاعها



لم تكن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تشهد العديد من الصراعات والأزمات ولا تزال تُعاني من آثار جائحة كوفيد-١٩، استثناءً من التأثر بتداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية، التي تجاوزت نصف عام منذ بدايتها في 24 فبراير الماضي. إلا أن هذه التداعيات لم تقتصر على دول المنطقة، رغم أهمية ذلك، بل امتدت إلى سياسات القوى الدولية المعنية بها والمنخرطة في أزماتها، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا.

انعكاسات مختلفة

كشفت الأشهر الستة الماضية من الحرب الروسية-الأوكرانية، التي بدأت في ٢٤ فبراير الماضي، عن اختلاف انعكاساتها على دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

١- عودة الولايات المتحدة للشرق الأوسط: دفعت العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، وما فرضته من ارتفاع أسعار النفط لمستويات غير معهودة منذ أربعة عشر عاماً، والتي كانت لها تداعيات قوية على الداخل الأمريكي، بدت جلية في ارتفاع أسعار البنزين إلى ٥ دولارات للجالون –قبل أن تعاود الانخفاض- في وقت يرتفع فيه التضخم لمعدلات لم تشهدها الولايات المتحدة منذ أربعة عقود؛ الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى إجراء تغيير في مقاربته التي تبناها تجاه المنطقة خلال الثمانية عشر شهراً الأولى له في البيت الأبيض، والتي كانت قائمة على تقليل الاهتمام بالمنطقة وقضاياها، إلا تلك التي تفرض نفسها بقوة على أجندته، وإعادة تموضع القوات الأمريكية في المنطقة في إطار الاستراتيجية الأمريكية تجاه منطقة الإندوباسيفيك. فقد بدا أن الولايات المتحدة بدأت تضع في قمة أولوياتها مواجهة نفوذ روسيا والصين المتزايد في الشرق الأوسط، والذي انعكس في تبني بعض الدول العربية مواقف محايدة أو غير مؤيدة للسياسات الغربية التي تهدف إلى عزل روسيا دولياً. وقد انعكس ذلك في كلمة الرئيس بايدن خلال قمة جدة للأمن والتنمية، التي عقدت في ١٦ يوليو الفائت، والتي قال فيها إن “الولايات المتحدة لن تترك فراغاً في المنطقة لتملأه روسيا والصين وإيران”.

٢- تعزيز النشاط الدبلوماسي الروسي: تصاعدت حدة الضغوط الغربية التي تتعرض لها روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا، على نحو دفعها إلى تعزيز نشاطها الدبلوماسي في منطقة الشرق الأوسط، وذلك لتحقيق هدفين: أولهما، تأكيد إخفاق السياسات الأمريكية والأوروبية التي تهدف إلى عزلها دولياً، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط التي تشهد تنامياً للنفوذ والدور الروسيين في الأزمات والصراعات الإقليمية. وثانيهما، توسيع نطاق شراكاتها السياسية والاقتصادية مع الدول الحليفة لها، والمؤيدة لموقفها في أوكرانيا، وكذلك دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تتبنى مواقف محايدة، أو رافضة للمقاربة الأمريكية تجاهها في أعقاب عملياتها العسكرية في ٢٤ فبراير الماضي على الأراضي الأوكرانية. ففي أعقاب الزيارة الأولى للرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المنطقة خلال الفترة من ١٣ إلى ١٦ يوليو الفائت، قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزيارة إيران في ١٩ من الشهر نفسه، تضمنت قمة ثلاثية بحضور الرئيسين الإيراني إبراهيم رئيسي، والتركي رجب طيب أردوغان. وأعقب ذلك زيارة وزير الخارجية سيرجي لافروف إلى المنطقة، خلال الفترة من ٢٤ إلى ٢٨ من الشهر نفسه، شملت مصر وبعض الدول الأفريقية (إثيوبيا، وأوغندا، والكونغو الديمقراطية)، وقد ألقى خطاباً بجامعة الدول العربية في ٢٤ يوليو الفائت، أثنى فيه على المواقف المتوازنة التي اتخذتها الدول العربية إزاء الأزمة الأوكرانية. وقد رأت تحليلات أمريكية أن زيارة بوتين للمنطقة كانت أكثر نجاحاً من زيارة بايدن، حيث كشفت عن رفض الدول العربية التخلي عن العلاقات الاستراتيجية مع روسيا.

٣- تفاقم تأثير أزمات الغذاء والطاقة: أثرت الحرب الروسية-الأوكرانية على الأمن الغذائي وأمن الطاقة في العديد من الدول العربية التي تعتمد بشكل كبير على استيراد الغذاء والطاقة من الخارج. وقد بدت لبنان حالة ماثلة في هذا السياق، حيث تفاقمت أزمات الطاقة والكهرباء والمواد الغذائية، بالتوازي مع استمرار تداعيات أزمة انفجار مرفأ بيروت التي تجاوزت عامها الثاني في 4 أغسطس الجاري دون أن تصل إلى تسوية حتى الآن، بسبب تفاقم تأثير الخلافات القائمة بين القوى السياسية اللبنانية حولها، والتي يبدو أنها سوف تتواصل خلال المرحلة القادمة.

٤- تحقيق مكاسب اقتصادية لبعض الدول: حققت الدول المنتجة للنفط والغاز الطبيعي مكاسب من ارتفاع أسعار الطاقة في السوق العالمية، حيث توقع صندوق النقد الدولي، في 19 أغسطس الجاري، أن هذه الدول ستحقق حوالي ١,٣ تريليون دولار إضافي من ارتفاع أسعار النفط، خلال أربعة أعوام، كما ستزداد حصتها في سوق الطاقة العالمية، وهو ما يعني أن العديد منها سيكون لديها فائض في الميزانية، على نحو سوف يؤدي إلى تسارع معدلات النمو الاقتصادي بها بشكل كبير.

5- تزايد صفقات الغاز العربي للدول الأوروبية: بينما تُعاني الدول الأوروبية من تراجع إمدادات الطاقة الروسية في أعقاب العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، بدأ بعضها في البحث عن مزيد من الإمدادات من منطقة الشرق الأوسط. وبالفعل، وقّعت دول عديدة اتفاقيات مع الدول العربية المنتجة للغاز لتعزيز التعاون في مجال الطاقة، وزيادة إمدادات الغاز لأوروبا قبل فصل الشتاء. فعلى سبيل المثال، زادت الجزائر من شحناتها من الغاز إلى إيطاليا لتصبح المورد الأول لها قبل روسيا بعد غزو الأخيرة لأوكرانيا. وخلال زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للجزائر، التي بدأت في ٢٥ أغسطس الجاري واستمرت ثلاثة أيام، تم الإعلان عن زيادات محتملة من الغاز الجزائري لفرنسا.

موازنة العلاقات

أعادت الحرب الروسية-الأوكرانية الاعتبار مجدداً إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وثقلها بالنسبة للاقتصاد العالمي، وزادت من أهمية بعض القوى الإقليمية العربية وغير العربية في الرؤية الاستراتيحية للولايات المتحدة بعد فترة من تحول السياسة الأمريكية تجاهها خلال الأشهر الأولى من إدارة الرئيس جو بايدن. فقد برز دورها في أعقاب تفاقم تداعيات الحرب على الداخل الأمريكي، ولا سيما مع قرب موعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر القادم، ومساعي الرئيس وحزبه للحفاظ على الأغلبية الديمقراطية الهشة في مجلسي الكونجرس (النواب والشيوخ)، وهو ما دفع العديد من الدول العربية، وفقاً لاتجاهات عديدة، إلى التعامل مع المطالب الأمريكية من منطق الندية.

وعلى الرغم من أن روسيا لن تحلّ محل الولايات المتحدة في تصدير الأسلحة وتقديم الدعم العسكري، وتعزيز الشراكة الاستراتيجية مع دول المنطقة؛ فإن العلاقات العربية معها توفر هامشاً من المناورة السياسية، ونوعاً من التوازن في العلاقات العربية-الأمريكية سوف يساعد في تقليص تداعيات أية تحولات محتملة في السياسة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال السنوات القادمة.