انكشاف الوكلاء:
تداعيات التصعيد ضد مليشيات إيران في المنطقة

انكشاف الوكلاء:

تداعيات التصعيد ضد مليشيات إيران في المنطقة



تعكس العمليات العسكرية الميدانية التي شهدتها كل من العراق وسوريا واليمن مؤخراً تغيراً في قواعد الاشتباك ضد المليشيات والفصائل الموالية لإيران. فبعد إعلان العراق رسمياً انتهاء المهام القتالية لقوات التحالف الدولي ضد “داعش”، في 9 ديسمبر الفائت، تم إحباط هجومين أحدهما على قاعدة “عين الأسد” في الأنبار، والثاني في المنطقة الدبلوماسية في بغداد في 3 يناير الجاري. كما شن التحالف الدولي هجوماً، في 5 من الشهر نفسه، على مليشيات تابعة للحرس الثوري في شرق دير الزور في سوريا، إضافة إلى مواصلة التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن إحباط الهجمات التي تشنها المليشيا “الحوثية” المدعومة من إيران. ويطرح ذلك في مجمله تساؤلات عديدة حول كيفية تغير قواعد الاشتباك، والتداعيات المحتملة في ضوء هذا التغير.

ملامح التغير

تبنت معظم الأطراف التي تتعرض لهجمات من الوكلاء الإيرانيين وقوات الحرس الثوري سياسة “الصبر الاستراتيجي” في الفترة الماضية. ففي أغلب الحالات، اقتصرت ردود الفعل ضد تلك المليشيات على توجيه ضربات دفاعية محدودة في معظم الجبهات، أو إصدار بيانات بملاحقة الفصائل والمليشيات الموالية لإيران، بالإضافة إلى تحسين قدرات الدفاع من منظومات دفاعية بحيث يمكن اعتراض الصواريخ والطائرات المُسيَّرة “الدرونز”. واستغلت ايران هذا الوضع في توسيع هامش العمليات الهجومية والتمدد الميداني وعدم الامتثال لعمليات التسوية سواء على المستوى الثنائي، في ظل عرض التحالف العربي مبادرة لتسوية الأزمة اليمنية، أو في إطار عملية تفاوض شاملة ضمن جولات المفاوضات النووية في فيينا، حيث طالبتها القوى الغربية والإقليمية بالتراجع عن سياسة التمدد الإقليمي عسكرياً.

ومن المتصور أن مواصلة هذا الاتجاه الجماعي ربما يقود إلى عدد من المعطيات الجديدة على المسرح الإقليمي، منها على سبيل المثال، احتمالات تراجع الهدوء في التصعيد العسكري الذي شهدته المنطقة خلال الفترة السابقة، بما يرجح بدء موجة عكسية من هذا التصعيد، ستكون ضد توجهات إيران في استخدام ورقة الوكلاء في الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الإقليميين. أيضاً من المحتمل تنسيق الجهود الجماعية بشكل مشترك للضغط على إيران عسكرياً وردعها للتراجع عن سياسة التمدد الإقليمي، وليس فقط مجرد إحباط عملياتها الهجومية على المواقع العسكرية والمدنية. وعلى الأرجح سيشكل هذا التنسيق الجماعي بديلاً استراتيجياً لتشكل تحالف معلن لمواجهة إيران عسكرياً. 

آليات مختلفة

وفق ما تعكسه التطورات الميدانية، يبدو أن هناك اتجاهاً مختلفاً للردع، يقوم على عدة آليات يتمثل أبرزها في:

1- تعزيز القدرات الدفاعية والهجومية: فعلى سبيل المثال، تمكنت القوات العراقية من إحباط الهجمات بالطائرات المُسيَّرة عبر استخدام منظومات (C-RAM) الأمريكية، ويمثل نجاحها في هذا الأمر خطوة نوعية في التعامل مع تلك العمليات في المستقبل. فالمليشيات التي هاجمت تلك المواقع تزعم عدم مصداقية الإعلان الحكومي عن الانسحاب الأمريكي من العراق، وأنها تهاجم قواعد أمريكية وليست عراقية، لكن في واقع الأمر فإن هذا التحرك من جانب المليشيات ينطوي على اختبار لموقف القوات العراقية التي يبدو أنها استعادت زمام الأمور ولم تعد تكتفي بمجرد إصدار بيانات عسكرية لملاحقة الخلايا المسلحة وتقديمها للقضاء.

2- توجيه ضربات استباقية نوعية: تحولت عمليات التحالف العربي لاستعادة الشرعية في اليمن إلى الردع الاستباقي عبر القيام بهجمات مضادة اعتماداً على عمليات رصد واستطلاع ناجحة لإحداثيات مصادر الهجمات، ثم القيام باستهدافها بضربات دقيقة، إلى جانب تعزيز قدرات القوات المشتركة وقوات المقاومة ميدانياً عبر عملية إعادة انتشار لقوات “العمالقة” من الساحل الغربي إلى شبوة، وهو ما ظهرت نتائجه في عرقلة تقدم المليشيا “الحوثية” باتجاه مأرب، فضلاً عن استعادة مواقع حيوية مثل عسيلان والاتجاه لتطهير جبهة بيحان من المليشيا “الحوثية”.

3- استهداف مواقع أسلحة المليشيات: كشفت تقارير ميدانية عن هجمات نوعية استباقية استهدفت راجمات صواريخ كانت في دير الزور الشرقي بـاستخدام الطائرات المُسيَّرة، وهى المرة الأولى التي يتم القيام فيها بعمليات من هذا النوع، بالتوازي مع التحذيرات التي وجهتها الولايات المتحدة الأمريكية من إمكانية القيام بشن هجمات عسكرية أوسع ضد المليشيات في حال استمرارها في استهداف مواقع القوات الأمريكية.

4- التلويح باستخدام أسلحة الليزر: أجرت البحرية الأمريكية، في 14 ديسمبر الفائت، اختباراً لسلاح ليزر جديد دمرت من خلاله هدفاً تدريبياً عائماً في خليج عدن، وقال الأسطول الخامس الأمريكي أنه اشتبك بنجاح مع الهدف. ومن دون شك، فإن التلويح بإمكانية استخدام هذا السلاح فضلاً عن اختيار خليج عدن تحديداً لإجراء الاختبار يوحي بأن هذه الخطوة لا تنفصل عن التصعيد المتواصل بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، خاصة أن الاختبار أجرى قبل نحو ثلاثة أسابيع من حلول الذكرى الثانية لمقتل قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري قاسم سليماني في 3 يناير الجاري.

دوافع جديدة

من المتصور أن الإدارة الأمريكية استنتجت أن دبلوماسية التفاوض والضغوط القصوى ضد إيران لم تعد لها جدوى كبيرة، خاصة وأن واشنطن فشلت في استيعاب الوكلاء وليس فقط إيران، فقد فشلت الدبلوماسية الأمريكية بعد رفع حركة “الحوثيين” من القائمة السوداء وتعيين مبعوث أمريكي إلى اليمن. كذلك في العراق، يبدو أن وكلاء إيران يسعون لاستغلال إنهاء المهام القتالية للتحالف الدولي والقوات الأمريكية من خلال الهيمنة الأمنية عبر استنزاف وإضعاف القوات الأمنية، بالإضافة إلى مماطلة إيران في الاستجابة لمطلب التخلي عن سياسة التمدد بل والإمعان في تعزيز حضورها في المنطقة.

 لكن هناك دوافع أخرى يجب وضعها في الاعتبار، ربما تكون قد ساهمت في تغير الموقف الأمريكي، منها على سبيل المثال، دور إيران ووكلائها في تنشيط التنظيمات الإرهابية على غرار “داعش” و”القاعدة” في كل من سوريا والعراق واليمن. ففي اليمن، كشفت تقارير عن عملية تبادل ثلاثية بين “القاعدة” و”الحوثيين” وإيران، بدأت المليشيا بموجبها في إطلاق سراح عشرات العناصر من التنظيم في اليمن. وبينما تعمل واشنطن لسنوات على تقويض حضور “القاعدة”، فإن عملية بهذا المستوى ستعيد تموضع التنظيم مرة أخرى. كذلك في سوريا، تتفق العديد من التقارير على أن إيران تسعى إلى تهيئة الوضع مرة أخرى لإنعاش دور تنظيم “داعش” في المنطقة الشرقية من البلاد بهدف توظيفه في استهداف الوجود الأمريكي والأكراد، وخلق ذريعة لاحقاً بأنها تدعم النظام السوري في مواجهة التنظيم خارج مناطق سيطرته في شرق الفرات.

سيناريو محتمل

ربما تكون الخطوة الأولى في مواجهة إيران عبر شل أذرعها الخارجية أو وكلائها الإقليميين. فهناك تحديات في حال التفكير في مواجهة مباشرة مع إيران بينما يدير الحرس الثوري وكلاء في العديد من الساحات التي يمكن من خلالها إرباك أو إضعاف أى محاولة لتقويض إيران. وفي حال نجاح هذه الخطوة في المستقبل، فقد تمثل دافعاً لإيران لمراجعة سياستها الإقليمية بشكل رئيسي. ومن اللافت للنظر إشارة تقديرات إسرائيلية أيضاً إلى التحرك في الاتجاه نفسه مع الولايات المتحدة الأمريكية لاستهداف الوجود الإيراني في سوريا.

في المقابل، ربما ستلوح طهران بورقة الدبلوماسية مرة أخرى، لكن لا يعتقد أنها ستقدم تنازلات شاملة في كافة الملفات الإقليمية، إلا أنها ستبدأ، على الأرجح، بالورقة التي قد تتعرض لخسارتها وهى الورقة اليمنية، في حين تبقى الورقة السورية في يد روسيا، مع الإبقاء على التوتر كسمة رئيسية في المشهد العراقي لحين تشكيل الحكومة.

في النهاية، يمكن القول، للمرة الأولى، إن هناك مؤشرات توحي بتشكل قوة ردع جماعية ضد وكلاء إيران في المنطقة، باتت تؤتي ثمارها، حيث تتعرض مليشيات الحرس الثوري والوكلاء إلى خسائر كبيرة في المرحلة الحالية، بالإضافة إلى استهداف البنية التحتية العسكرية من منصات صواريخ وطائرات مُسيَّرة وغيرها. إلا أنه من الأهمية بمكان ترقب كيف سيتحول هذا التطور في قواعد الاشتباك إلى متغير سياسي يدفع إيران إلى التراجع عن سياستها الإقليمية ولو بالتدريج، وهو الرهان التالي الذي سيظهر في الملفات الإقليمية، حسب معطيات موازين القوة التي ستفرزها معادلات الاشتباك الجديدة في الإقليم.