تداعيات الانسحاب الأميركي على روسيا والصين – الحائط العربي
تداعيات الانسحاب الأميركي على روسيا والصين

تداعيات الانسحاب الأميركي على روسيا والصين



«بوتين يضحك وبايدن يذرف دموعه»، هكذا وضعت إحدى المجلات الفرنسية «لوبوان» عنوان غلاف أحد أعدادها الأخيرة بعد قرار الانسحاب الأميركي وحلفائه الغربيين من أفغانستان في نهاية أغسطس (آب) الماضي.

وأشارت المجلة إلى أنه خلافاً لأغلبية الدول الغربية الذين أصابهم الارتباك والهلع باستيلاء حركة «طالبان» على العاصمة كابل في 15 أغسطس الماضي، لم تبدِ روسيا قلقاً مماثلاً أمام انهيار قوات الحكومة الأفغانية في مواجهة قوات «طالبان»، حيث بدا سفير روسيا لدى أفغانستان ديمتري زيرنوف، مطمئنّاً بما حدث بقوله إنه حصل على ضمانات بأنه «لن تُمسّ شعرة واحدة لدبلوماسيينا الروس».

وكان من الواضح أنهم كانوا متوقعين ما حدث من فوضى انسحاب القوات الغربية والأميركية على وجه الخصوص.

اختيار المجلة الفرنسية المحافظة عنونة غلافها بذلك الشكل أعادني بالذاكرة إلى ما كان قد صرح به زبغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي جيمي كارتر (1977 – 1981)، من أن «الولايات المتحدة أوقعت الاتحاد السوفياتي في الشَّرَك المنصوب لها في أفغانستان عكس الرواية الرسمية التي روّجت حينها أن وكالة المخابرات الأميركية بدأت بدعم المجاهدين الأفغان في غضون عام 1980 أي بعد اجتياح القوات السوفياتية لأفغانستان في 24 ديسمبر (كانون الأول) 1979 بينما الحقيقة التي أخفيناها سراً أن الرئيس كارتر أعطى توجيهاته في 3 يوليو (تموز) 1979 بتقديم الدعم الأميركي سراً لمعارضي النظام الموالي للنظام السوفياتي في كابل، وكتبت حينها مذكرة للرئيس أن الدعم الأميركي سيؤدي إلى تدخل عسكري سوفياتي لمساندة النظام الموالي له في كابل»، وعند سؤال صحيفة «نوفيل أوبسيرفاتر» إذا كان يأسف لما حدث؟ أجاب بريجينسكي: «لماذا أسف؟ كانت الفكرة رائعة؛ جر الروس إلى المصيدة الأفغانية وتريدني أن أسف لما حدث لهم؟ ففي اليوم الذي تجاوز الروس حدودهم، كتبت للرئيس كارتر قائلاً: الآن أعدنا إلى ملعب الروس حربهم في فيتنام». وفعلاً غزو موسكو لأفغانستان في حرب دامت عشر سنوات لا تطاق أدت إلى فقد معنوياتهم وفي النهاية إلى اندثار الإمبراطورية السوفياتية.

ورداً على سؤال آخر عمّا إذا كان لا يندم «على دعمكم للإسلاميين المتطرفين بالسلاح، وتقديم استشاراتك ودعمكم لإرهابيي المستقبل؟»، أجاب: «ما المهم بالنسبة إلى تاريخ العالم؛ «طالبان» أم انهيار الإمبراطورية السوفياتية؟ عدد من الإسلاميين المتطرفين أم تحرير أوروبا الوسطى ونهاية الحرب الباردة؟».

هكذا كان تفكير أميركا وردها على موقف السوفيات الداعم للفيتناميين في حربهم ضد الولايات المتحدة وانتقام أميركا منها بتوريطها في غزو أفغانستان، والآن «دارت الأيام»، وفق التعبير الدارج، لتصبح أميركا هي الضحية من غزوها لأفغانستان، الأمر الذي وصفته مجلة «لوبوان» الفرنسية بعنوان «بوتين يضحك بما حدث للهزيمة المشينة للولايات المتحدة» يقابله صورة الرئيس الأميركي جو بايدن وهو يذرف دموعه على ما حدث لبلاده من الإسلاميين المتطرفين، حسب توصيف بريجينسكي لهم والذي كان سيكون مثيراً سؤاله الآن حول رأيه فيما حدث لبلاده، حيث توفي في مايو (أيار) 2017، وللإنصاف يجدر بنا القول إنه كان من قلة الشخصيات الأميركية البارزة التي حذّرت إدارة بوش الابن صراحةً من غزو العراق، ويُنقَل عنه في فبراير (شباط) 2003 وقبل حرب العراق بأسابيع قوله إنه إذا قررت الولايات المتحدة المضي قدماً في خططها الخاصة بالعراق فسوف تجد نفسها بمفردها تتحمل تكلفة تبعات الحرب فضلاً عن ازدياد مشاعر العداء والكراهية الناتجة عن تلك الحرب.

إذا كان التدخل الأميركي في أفغانستان جاء على أثر الأحداث المؤلمة التي وقعت فيها في 11 سبتمبر (أيلول) 2001، فإن الغزو السوفياتي لها يعود إلى اعتبارات جيو – سياسية بحكم الجغرافيا المشتقة منها كلمة «جيو» والسياسية التي كانت حدودها ملاصقة لأفغانستان وذلك في ظل حكم الاتحاد السوفياتي، والسؤال: لماذا الآن روسيا مهتمة بأفغانستان بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وأصبحت الأقاليم التي كانت تتبعها جمهوريات مستقلة مثل طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان؟

هناك عدة أسباب تدعو روسيا والدول المحيطة بتطورات الأزمة الأفغانية إلى توخي الحذر وأخذ الحيطة من عودة «طالبان» وسيطرتها على مقاليد السلطة مجدداً في أفغانستان التي قد تتحول مجدداً إلى مرتعاً خصباً للمجاهدين وعناصر «القاعدة» الذين تهافتوا إليها من جميع أنحاء العالم بين عامي 1996 و2001 ووجدوا فيها ملاذاً آمناً.

ويشير بعض المحللين إلى العلاقات التاريخية التي ربطت حركة «طالبان» مع بعض التنظيمات الإسلامية المتشددة داخل المحيط الأفغاني؛ على سبيل المثال اعتراف «طالبان» في عام 1996 باستقلال الشيشان وفتح سفارة شيشانية في كابل في وقت لاحق وإرسالها قوات للقتال في الشيشان. كذلك، كانت دولة أوزبكستان المجاورة من الأهداف العَرضية الأخرى التي سنحت أمام حركة «طالبان».

وبعد عقدين من الزمان تخشى أنظمة آسيا الوسطى من الجمهوريات السوفياتية السابقة تدفق اللاجئين الأفغان إليها خوفاً من تسلل متطرفين «مقاتلين متخفين» يمكن أن يختبئوا بين هؤلاء السكان، مما جعل فلاديمير بوتين يدعو نظراءه إلى إغلاق أبوابهم أمام اللاجئين الذين قد تبلغ أعدادهم مئات الآلاف، فراراً من الأراضي الأفغانية، خصوصاً أن الحدود مفتوحة بينهم وبين روسيا مما يشكّل خطراً على أمن وسلامة الأراضي الروسية ذاتها. في مواجهة هذا التهديد كثفت روسيا مناوراتها العسكرية مع حلفائها في آسيا الوسطى وأبلغت عن طلبات أسلحة جديدة من هذه البلدان.

بخلاف روسيا تقع الصين في الشمال الشرقي من حدود أفغانستان ومخاوفها من تهافت المجاهدين واللاجئين إلى حدودها وفي ذاكرتهم العلاقة التي كانت تربط حركة «طالبان» ومسلمي الأويغور في الصين حيث استقرت مجموعات منهم في كابل واستخدمتهم حينها «طالبان» في كتيبة الأجانب التي تقاتل الأعداء الداخليين للحركة، ولذلك لم يكن مستغرباً أن الصين لم تعترف بحركة «طالبان» في الفترة 1996 – 2001 عند سيطرتها على كابل.

وتحلّت الصين إزاء الأحداث في كابل بـ«الصبر الاستراتيجي» وعدم التورط فيما يجري، لأنه كما هو معروف حذرُ الصينيين التقليدي وفق مثلهم الشعبي هو الاكتفاء «بالنظر من الضفة المقابلة ورؤية النيران وهي تشتعل أمامك»، والهدف من سياسة الحذر التي تتبناها الصين إزاء حركة «طالبان» له دوافع اقتصادية بغرض تعزيز نفوذهم عبر البنية التحتية المرتبطة بمبادرة «الحزام والطريق» ومساعدة باكستان بتحقيق اندماج اقتصادي مع أفغانستان وتجلى ذلك في دعوة وزير خارجية الصين قيادة «طالبان» برئاسة الملا عبد الغني برادر إلى زيارة الصين واستقباله له في نهاية يوليو الماضي.

وقد استغلت الصين ذلك إعلامياً ووصفته محلياً بمظاهر الانسحاب الكارثي للولايات المتحدة من كابل مع الصور التراجيدية التي بثّتها شاشات التلفزيون العالمية للأفغان الذين توافدوا بالآلاف على مطار كابل لمحاولة الهروب، وسقوط بعض الأفغان من الجو عندما تعلّق بالطائرة العسكرية الأميركية، ورأى إعلامها أن ذلك يمثل إفلاساً استراتيجياً ارتكبته القيادات الأميركية المتتالية التي سكنت البيت الأبيض! ولم تكن هذه الحملة الإعلامية ضد الولايات المتحدة والدول الغربية ولكن هي في الأساس كانت موجهة كدرس على قيادات تايوان استيعابه بأنها ستواجه نفس المصير وتُترك لحالها وحيدة إذا اندلعت حرب في المضيق والدفاع عن الجزيرة سينهار في غضون ساعات قليلة، ولن يستطيع الجيش الحضور لإنقاذها، وقادة الحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم في تايوان سيستسلمون وبعضهم قد يفر بالطائرة إلى خارج الجزيرة.

أظهرت أحداث كابل تجسيداً مجدداً عودة الحرب الباردة بشكل مختلف بين المعسكر الصيني الروسي والمعسكر الغربي الأميركي والدول الغربية، وذلك من خلال تكثيف الاتصالات بين قادة روسيا والصين وتبنيهم مواقف مشتركة في مجلس الأمن إزاء تداعيات الأزمة الأفغانية في الوقت الذي لا يبدو فيه أن الموقف الغربي يقف بنفس الانسجام والتعاضد كالموقف الصيني – الروسي.

إعلان تشكيل الحكومة المؤقتة مؤخراً في أفغانستان قد يعيد مخاوف المعسكرين معاً من عودة ماضي «طالبان» المتطرف مما سيدعو إلى توحيد الجهود الدولية لمعالجة ذلك.

نقلا عن الشرق الأوسط