يشهد العراق حالة من عدم التوازن بفعل الانسداد السياسي وما ترتب عليه من تصعيد أنصار التيار الصدري، في مواجهة أنصار تحالف الإطار التنسيقي الموالي لإيران، إلى حد اندلاع اشتباكات مسلحة بين مليشيات تابعة للطرفين في بغداد والبصرة خلال الأسبوع الأخير من شهر أغسطس الماضي. وفي ضوء حالة عدم الاستقرار السياسي، فإن ثمة عدداً من المحفزات التي قد يستغلها تنظيم “داعش” لصالحه، على رأسها انعكاسات المشهد الإقليمي والدور الإيراني، والمشهد الأمني المضطرب، واستدعاء المليشيات في خضم الصراع السياسي، وجميعها عوامل قد تؤدي لتداعيات محتملة بشرط استمرار حالة العنف في المشهد العراقي، مثل إعادة “داعش” بناء قدراته في مناطق نفوذه، وتحولات في النطاق الجغرافي للنشاط العملياتي، وتوظيف الأزمة السياسية وملف الطائفية في عمليات التجنيد، مع إمكانية اختراق المنطقة الآمنة وتنفيذ عمليات إرهابية.
تتصاعد التخوفات من نشاط عملياتي متزايد لتنظيم “داعش” في العراق، على مدار أكثر من شهر تقريباً، في ضوء تحولات حالة الانسداد السياسي، بعد تأخر تشكيل حكومة جديدة، واتساع نطاق الخلافات بين المكونات والكتل المختلفة داخل وخارج البرلمان العراقي حيال اسم رئيس الحكومة الجديد. ورغم محاولات التهدئة السياسية خلال الأيام القليلة الماضية، إلا أن عمليات التصعيد واستخدام العنف لا تزال مستمرة، وإن كانت متقطعة، بما يفاقم القلق من استغلال تنظيم “داعش” للتصعيد على الساحة العراقية.
محفزات النشاط
قبل التطرق إلى محفزات يمكن أن تؤدي إلى تزايد النشاط العملياتي لتنظيم “داعش” في العراق، على خلفية الأزمة السياسية واتساع نطاق العنف السياسي، يمكن الوقوف على طبيعة واتجاهات النشاط العملياتي للتنظيم خلال الأشهر القليلة الماضية، أي قبل وأثناء الاحتجاجات التي بدأت في التصاعد في 27 يوليو الماضي، كالتالي:
المصدر: بيانات وكالة “أعماق” الموالية لـ”داعش”.
يُظهر المخطط السابق منحنى النشاط العملياتي لـ”داعش”، بداية من شهر فبراير الماضي، وهو الشهر نفسه الذي شهد مقتل زعيم التنظيم في سوريا أبو إبراهيم الهاشمي القرشي في عملية إنزال جوي للقوات الأمريكية، وحتى نهاية شهر أغسطس الماضي.
لم يتجاوز معدل عمليات “داعش” حاجز 30 عملية خلال أشهر (فبراير ومارس ويونيو ويوليو وأغسطس)، فيما شهد منحنى العمليات قفزة خلال شهري أبريل ومايو، بمعدل عمليات (79 و46) على الترتيب، ويرتبط هذا باستجابة كبيرة لموجة العنف التي أطلقها تنظيم “داعش”، عقب الإعلان عن زعيمه الجديد، وإطلاق ما يُعرف بـحملة “الثأر للشيخين”، عقب مقتل زعيمه السابق والمتحدث الإعلامي، وكان النطاق الزمني للحملة بين شهري أبريل ومايو.
وفي سياق الحديث عن عدم الاستقرار السياسي في العراق والتصعيد من قبل أنصار التيار الصدري منذ أواخر شهر يوليو وحتى نهاية شهر أغسطس، فإن منحنى العمليات لا يعكس نشاطاً عملياتياً متزايداً خلال تلك الفترة، إذ ظل معدل العمليات أقل من حاجز 30 عملية.
في ضوء التخوفات من انعكاسات حالة الاستقرار السياسي في العراق على جهود مكافحة الإرهاب، يمكن الإشارة إلى عددٍ من المحفّزات التي يمكن أن يستغلها تنظيم “داعش”، وذلك فيما يلي:
1- انعكاسات المشهد الإقليمي على الانسداد السياسي: منذ أكتوبر 2021، لم يتحقق اختراق سياسي حقيقي لحالة الانسداد، في ظل تمسك الأطراف المتصارعة بمواقفها، وتحديداً بين كتلة التيار الصدري بقيادة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، وكتلة تحالف الإطار التنسيقي المشكلة من أحزاب شيعية، وبدا أن المشهد السياسي العراقي متأثر بانعكاسات المشهد الإقليمي، إذ يرفض التيار الصدري تصدر شخصيات موالية لإيران، في حين أن تحالف الإطار التنسيقي رشح أحد أعضاء ائتلاف دولة القانون برئاسة نوري المالكي، وهو محمد شياع السوداني رئيساً للحكومة، خاصة مع ميول الإطار التنسيقي إلى إيران.
ويشير المشهد السياسي العراقي إلى أن احتواء أزمة الانسداد السياسي لا يتوقف فقط على تحقيق تفاهمات بين المكونات الداخلية المختلفة، وإنما مرهون بقرار خارجي، وتحديداً من إيران، في ضوء العلاقات القوية مع الإطار التنسيقي، ومن غير المرجح أن طهران بالتنسيق مع المقربين منها بالعراق يمكن أن تقدم تنازلات سياسية، بما قد يكون مؤشراً على استمرار التوترات السياسية.
2- استدعاء المليشيات المسلحة في الأزمة السياسية: يشهد العراق منذ 27 يوليو الماضي، عملية تصعيد وتحشيد من قبل أنصار التيار الصدري في المنطقة الخضراء بالعاصمة بغداد، مع اقتحام البرلمان، على خلفية استقالة نواب الكتلة الصدرية في يونيو الماضي، بسبب تصاعد حدة الأزمة السياسية، قبل استدعاء المليشيات المسلحة إلى المنطقة الخضراء، في ظل استمرار الاحتجاجات من قبل أنصار التيار الصدري واقتحام منشآت بالمنطقة الخضراء، إذ شهدت بغداد مواجهات مسلحة دموية بين مليشيات تابعة لتيار الصدر من جهة، وقوات الأمن ومليشيات محسوبة على الإطار التنسيقي موالية لإيران من جهة أخرى في 28 و29 أغسطس 2022، مما استدعى فرض حظر التجوال في بغداد.
3- انتقال رقعة العنف وعدم الاستقرار إلى خارج بغداد: لم يتوقف استدعاء المليشيات المسلحة في بغداد فقط، إذ شهدت محافظة البصرة (31 أغسطس 2022) مواجهات مسلحة بين مليشيا “سرايا السلام” التابعة للتيار الصدري، ومليشيا “عصائب أهل الحق” الموالية لإيران، أسفرت عن مقتل 4 في صفوف تلك المليشيات، قبل تدخل قوات الأمن والسيطرة على الموقف، وفقاً لمحافظ البصرة أسعد العيداني، فيما تعرض منزل النائب في البرلمان رائد المالكي، لهجوم مسلح، دون أن يسفر عن قتلى أو مصابين، وذلك في محافظة ميسان. وبغض النظر عن علاقة واقعة الهجوم على منزل المالكي بالاحتجاجات والتصعيد العنيف الذي شهدته بغداد والبصرة، إلا أنه يعكس تأثيرات المواجهات المسلحة على المشهد الأمني بشكل عام.
4- تزايد التحديات الأمنية في ظل تصاعد العنف: المشهد العراقي في مجمله، وتحديداً عقب تصاعد العنف المرتبط بالمليشيات الموالية لطرفي الأزمة السياسية، يزيد من التحديات الأمنية التي تَفْرِض على الأجهزة الأمنية، الممثلة في قيادة العمليات المشتركة، أعباء إضافية، خاصة مع اندلاع أحداث عنف متقطعة خلال الأسبوع الأخير من شهر أغسطس، بما يستدعي حالة استنفار والتركيز في ضبط الوضع الأمني، ولا سيما في بغداد، ونشر عدد كبير من القوات وتأمين المنشآت الحيوية والحكومية، باعتبار أن فرض الأمن يحتل المرتبة الأولى لدى قيادة العمليات المشتركة.
تأثيرات محتملة
في ضوء توفر عددٍ من المحفزات على الساحة العراقية، التي يمكن لتنظيم “داعش” استغلالها، فإن ثمة تداعيات محتملة لحالة عدم الاستقرار، يتمثل أبرزها في:
1- تحولات في النطاق الجغرافي للنشاط العملياتي: لا يعكس عدم رصد نشاط عملياتي متزايد خلال شهري يوليو وأغسطس من قبل تنظيم “داعش” على وقع الانسداد السياسي والاتجاه إلى ممارسة العنف من قبل بعض الأطراف السياسية المتصارعة، تراجع احتمال استغلال التنظيم الوضع المضطرب لصالحه؛ إذ يمكن أن يتجه التنظيم إلى توظيف حالة عدم الاستقرار لتنفيذ عمليات في نطاقات جغرافية محددة، وتكثيف التركيز عليها دون غيرها، ولكنّ هذا مرهون باستدامة العنف السياسي والمواجهات بين المليشيات، واستنزاف القوات العراقية في التعامل مع الوضع الأمني المضطرب. ويدعم هذا الاحتمال زيادة معدل عمليات التنظيم في محافظة كركوك على وجه التحديد خلال شهر أغسطس الماضي، بمعدل 13 عملية، مقارنة بـ5 عمليات خلال شهر يوليو الماضي، و4 عمليات خلال شهر يونيو الماضي. فيما حافظ التنظيم على معدل عمليات شبه ثابت في محافظة ديالى خلال الأشهر الثلاثة الماضية (يونيو: 8 عمليات، ويوليو: 6 عمليات، وأغسطس: 7 عمليات).
2- إمكانية تنفيذ عمليات واختراق المدن الآمنة: حال استمرار الوضع المضطرب وتصاعد حالة العنف، يمكن لتنظيم “داعش” اختراق العاصمة أمنياً، وتنفيذ عمليات إرهابية في المنطقة الخضراء، اعتماداً على حالة انفلات السيطرة الأمنية على مدار ما يزيد على شهر بداية من 27 يوليو الماضي، خاصةً وأن التنظيم يمتلك خلايا في المثلث الجغرافي (ديالى، وكركوك، وصلاح الدين)، مع الإعلان عن تنفيذ عمليات في مناطق بشمال بغداد. وخلال الأشهر الثلاثة الماضية، أعلن “داعش” عن تنفيذ 6 عمليات في شمال بغداد. كما قد يلجأ التنظيم إلى تنفيذ عمليات في محافظات تُعد آمنة مثل البصرة، خاصة مع اتهام التنظيم بتنفيذ عملية تفجير إرهابية بالمحافظة في ديسمبر 2021.
3- تراجع نسبي في العمليات الأمنية لمواجهة “داعش”: ربما يسفر استمرار عدم الاستقرار السياسي وما يصاحبه من عنف، عن تراجع في العمليات الأمنية لمواجهة “داعش”، في ضوء انشغال الجهات الأمنية والعسكرية بفرض الأمن في العاصمة ومحافظات أخرى قد تشهد تصعيداً، مع الإبقاء على العمليات في إطار المثلث الجغرافي (ديالى، وكركوك، وصلاح الدين) للمحافظة على عدم اختراق التنظيم العاصمة أمنياً، وتنفيذ عمليات في المنطقة الخضراء.
4- إعادة بناء القدرات في نطاقات جغرافية معينة: قديؤدي صرف انتباه الجهات المعنية بملف مكافحة الإرهاب، وعدم تنفيذ العمليات على نفس الوتيرة لمواجهة تنظيم “داعش”، إلى إعادة بناء التنظيم للقدرات والتموضع في مناطق النفوذ التقليدية، في المنطقة الغربية من العراق، وقد يكون تزايد معدل العمليات في كركوك خلال أغسطس الماضي، في إطار مخططات توجيه التركيز على نطاق جغرافي معين، في سياق ترتيبات أخرى، خاصة وأن الجيش العراقي أعلن عن انطلاق المرحلة السادسة من عملية “الإرادة الصلبة” في كركوك، بفعل تزايد معدل العمليات في المحافظة.
5- استغلال الاضطراب السياسي في زيادة التجنيد: يمكن أن يستغل تنظيم “داعش” حالة الاضطراب السياسي بين المكونات الشيعية، وعدم تشكيل الحكومة والخلافات حول إجراء انتخابات برلمانية جديدة،في ظل ما تشهده العراق من أزمات اقتصادية، إضافة إلى تأثيرات ونفوذ إيران على المشهد السياسي العراقي، بصورة قد تمكنه من توظيف تلك العوامل للتجنيد من المكون السني في العراق خلال الفترة المقبلة، مع إمكانية توظيف الملف الطائفي في العراق لزيادة معدلات الاستقطاب.
إعادة التموضع
وأخيراً، فإن تنظيم “داعش” يمكن أن يستغل ويوظف حالة عدم الاستقرار السياسي، وبشكل خاص العنف السياسي المترتب على الانسداد السياسي، لصالحه في إعادة التموضع وبناء القدرات، حال انشغال القوات العراقية عن مواصلة العمليات ضده. ومع ذلك، لا يمكن التنبؤ بتطور عملياتي لـ”داعش” على المدى القريب المنظور، في ضوء عدم امتلاك القدرات للتقدم ميدانياً، ولكن يبقى أن استمرار “العنف” والمواجهات بين المليشيات الشيعية، قد يتحول إلى حرب أهلية، وهو ما يؤدي إلى زيادة نفوذ التنظيم وقدراته مجدداً.