تواصل القوات الأمريكية في سوريا عملياتها لملاحقة قيادات في تنظيم “داعش”، في ضوء استراتيجية لتفكيك شبكات التنظيم، مع تعدد مستويات المواجهة، لاستهداف أطراف تُقدم الدعم اللوجيستي، أو تساهم في عمليات تهريب عناصر للتنظيم. وكان أحد التحولات الأبرز في عمليتي الاستهداف التي نفذتهما القوات الأمريكية (6 أكتوبر 2022)، هو تنفيذ إحداهما على الأقل في مناطق سيطرة النظام السوري، لمواجهة التهديدات الأمنية لمجموعات التنظيم.
توجّه الولايات المتحدة، على مدار الأشهر القليلة الماضية، سلسلة ضربات لاستهداف قيادات بارزة ونافذة في فرع تنظيم “داعش” بسوريا، في إطار استراتيجية جديدة لإعادة التموضع على الساحة السورية، وتحديداً مع تولي الجنرال إريك كوريلا منصب قائد القيادة المركزية للجيش الأمريكي في أبريل الماضي.
ونفذت القوات الأمريكية في سوريا عمليتين منفصلتين لملاحقة قيادات وعناصر نافذة في تنظيم “داعش”. وأعلنت القيادة المركزية، في 6 أكتوبر 2022، في بيانين منفصلين، مقتل 3 أفراد من تنظيم “داعش” بينهم نائب والي سوريا في التنظيم، واعتقال اثنين آخرين.
وسبق أن أعلنت الولايات المتحدة استهداف قيادات بالتنظيم منذ شهر فبراير الماضي، بعد استهداف زعيم التنظيم أبو إبراهيم الهاشمي القرشي في أعقاب محاولة اقتحام “داعش” سجن غويران أواخر شهر يناير الماضي، وهي العملية التي أثارت التخوفات من تمتع التنظيم بقدر من المرونة في التخطيط لهجمات منسقة، بما يؤثر على احتمالات استعادة نفوذه على الساحة السورية مجدداً.
أبعاد رئيسية
في ضوء الإفادات التي قدمتها القيادة المركزية الأمريكية، رغم محدودية المعلومات التفصيلية حول عمليتي الاستهداف لقيادات “داعش”، وبعض التقارير الإعلامية المحلية السورية؛ يمكن الوقوف على بعض الأبعاد الرئيسية، كالتالي:
1- نمط جديد من العمليات العسكرية: خلال الأعوام القليلة الماضية،توالت عمليات الاستهداف الأمريكي لقيادات وعناصر تنظيمات إرهابية بشكل عام، وتنظيم “داعش” بشكل خاص،في ضوء تقييم طبيعة التهديدات والمخاطر بالنسبة للقوات الأمريكية المشاركة ضمن التحالف الدولي لمواجهة تنظيم “داعش”. ولكن تركزت أغلب تلك العمليات في مناطق سيطرة مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” بشمال شرق سوريا، أو مناطق نفوذ مليشيات مسلحة تُصنف بالمعارضة للنظام السوري. ولكن اللافت في العمليتين المشار إليهما، أن إحداهما كانت في نطاق سيطرة النظام السوري ومليشيات موالية له في محافظة الحسكة، وهو ما لم يكن معتاداً بالنسبة لعمليات القوات الأمريكية في ملاحقة قيادات التنظيمات الإرهابية.
ووفقاً لبيان القيادة المركزية الأمريكية، فإن القوات الأمريكية نفذت غارة بطائرة مروحية بالقرب من قرية في القامشلي، دون تقديم تفاصيل حول النطاق الجغرافي للهجوم، إلا أن تقارير محلية سورية أشارت إلى أن الهجوم كان في قرية ملوك سراي جنوب القامشلي بريف محافظة الحسكة، وتخضع لسيطرة النظام السوري.
وبشكل عام، يشير استهداف قيادي بتنظيم “داعش” في مناطق سيطرة النظام السوري، إلى تمكن مجموعاته في سوريا من استغلال توترات الوضع الميداني وتقاسم النفوذ والسيطرة داخل المحافظة الواحدة، في إحداث اختراق اعتماداً على الحدود البينية بين الأطراف المتنازعة المختلفة.
2- احتمال اعتقال عناصر موالية للنظام: رغم أنبيان القيادة المركزية الأمريكية حول العمليتين لاستهداف قيادات “داعش” أعلن اعتقال عنصرين اثنين، إلا أنه لم يوضح هويتهما أو دورهما أو علاقتهما بتنظيم “داعش”. في المقابل، أفادت تقارير محلية، منها ما نشره “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، بأن القوات الأمريكية المشاركة في الغارة الجوية بقرية ملوك سراي بالقامشلي، اعتقلت قائد ما يُعرف بـ”فصيل أنصار الأمن العسكري”، الذي يتشكل من مجموعات من بعض أبناء القبائل بتلك المنطقة، ويتبع النظام السوري. وفي حال صحة احتمالية اعتقال قائد مليشيا موالٍ للنظام السوري، فإنه من غير الواضح سبب اعتقاله، هل بسبب علاقاته بتنظيم “داعش” أم لمواجهة القوات الأمريكية؟.
3- عمليتان في نطاق زمني متقارب: يعكس المدى الزمني المتقارب والذي يتمثل في ساعات قليلة بين العمليتين، الجهد الاستخباراتي والمعلوماتي الذي حافظت عليه القوات الأمريكية خلال الأشهر القليلة الماضية، والذي بدا أكثر نشاطاً ميدانياً بالتعاون مع قوات “قسد”، منذ محاولة اقتحام سجن غويران، إضافة إلى رغبة أمريكية في تكثيف استهداف القيادات الفعالة والبارزة في تنظيم “داعش” بسوريا، بصورة قد تؤدي إلى تحجيم النشاط العملياتي، وبالأخص باتجاه مناطق سيطرة “قسد” بشمال شرق سوريا.
ويمكن القول إن الاستهداف المتقارب زمنياً في العمليتين يُبرز عدداً من الاحتمالات: أولاً، تهديد حرج، إذ يمكن أن تكون العمليتان تتصلان بتهديد ما، يستلزم استهداف تلك القيادات في توقيت متقارب زمنياً، مثل إحباط مخطط نشط يتم الإعداد له. ثانياً، تخوفات من تغيير مكان الإقامة، فقد يكون الاستهداف المتقارب زمنياً يشير إلى تخوف القوات الأمريكية من تغيير أحد القيادات المستهدفة مكان الإقامة حال استهداف الآخر أولاً خوفاً من استهدافه. ثالثاً، ارتباط القيادات المستهدفة بمسار معلوماتي واحد، حيث ربما حصلت القوات الأمريكية على معلومات من مصدر واحد حول تلك القيادات، على نحو يفرض دراسة الوضع الميداني والتدقيق في المعلومات المقدمة للحالتين في توقيت متزامن.
4- طبيعة الأهداف في العمليتين: وفقاً للقيادة المركزية الأمريكية، فإن العملية الأولى أسفرت عن مقتل قيادي يُدعى أبو هاشم الأموي نائب والي سوريا، إضافة إلى قيادي ثانٍ كبير دون الكشف عن هويته، خلال غارة جوية، دون تقديم تفاصيل حول طبيعة العملية. أما العملية الثانية، فكانت غارة بطائرة مروحية، لاستهداف قيادي يُدعى راكان وحيد الشمري، أحد مسئولي التنظيم المعروف بتسهيل تهريب الأسلحة والمقاتلين لدعم عمليات “داعش”، وأُصيب أحد مرافقيه فيما تم اعتقال اثنين آخرين. واللافت في تفاصيل الأهداف والنطاقات الجغرافية وتكتيك الاستهداف، أن القوات الأمريكية نفذت عملية إنزال جوي لاستهداف الشمري، في حين أنه كان يقيم بمناطق سيطرة النظام السوري، بما يشير إلى تخلي الولايات المتحدة عن الحذر المرتبط بهذا التكتيك في العمليات في البيئات المعادية. إذ كان من المحتمل تعرض تلك القوات لمقاومة من مليشيات أو مجموعات مسلحة موالية للنظام السوري، مع الإشارة إلى أن القوات الأمريكية سبق وأن نفذت عملية إنزال لاستهداف القيادي ماهر العقال في جرابلس، وهي منطقة تخضع لسيطرة مليشيات وفصائل مسلحة محسوبة على المعارضة، وتوالي تركيا، بما يعني أنها منطقة ليست خاضعة لسيطرة القوات الأمريكية، أو أطراف موالية لها بشكل مباشر.
انعكاسات محتملة
تفرض العمليتان اللتان قامت بهما القوات الأمريكية بعض التداعيات التي يتمثل أبرزها في:
1- تصاعد الضغوط لمحاصرة نشاط “داعش”: اتسمت عمليات القوات الأمريكية خلال الأشهر الثلاثة الماضية، بالتنوع لملاحقة وتحجيم النشاط العملياتي لتنظيم “داعش”، الذي أخذ في التصاعد منذ النصف الثاني من العام الماضي باتجاه مناطق سيطرة قوات “قسد”، وكانت على أكثر من مستوى: الأول، ملاحقة القيادة البارزة، من قيادات الصف الأول والثاني، وكان أبرزهم زعيم التنظيم أبو إبراهيم الهاشمي. والثاني، تفكيك خلايا التنظيم من خلال عمليات مشتركة مع قوات “قسد”. والثالث، تقديم الدعم الجوي لعمليات قوات “قسد” في مناطق سيطرتها بشمال شرق سوريا. والرابع، ملاحقة العناصر التي توفر الدعم اللوجيستي من أسلحة، أو تُسهل عمليات تهريب العناصر للتنظيم مثلما الحال مع استهداف الشمري.
وتعكس التحركات الأمريكية اتجاهاً إلى تفكيك شبكات التنظيم على مختلف المستويات، دون الاعتماد فقط على عمليات القصف أو تقديم المشورة والتدريب لقوات “قسد”، وبالتالي من المتوقع استمرار هذا النهج خلال الفترة المقبلة، في ضوء جهد استخباراتي ميداني مُتقدم.
2- فرض إجراءات جديدة لحماية قيادات التنظيم: بفعل توالي الضربات الأمريكية لاستهداف قيادات بارزة وفعالة داخل الهيكل التنظيمي لفرع “داعش” بسوريا خلال الفترة الماضية، واتجاه الولايات المتحدة إلى تنفيذ عمليات نوعية لتفكيك شبكات التنظيم، فإنه من المتوقع انتقال قيادات التنظيم باتجاه مناطق أكثر أمناً نسبياً على غرار منطقة البادية، والاستفادة من الحدود غير الخاضعة للسيطرة أمنياً بين مناطق هيمنة الأطراف المتنازعة على النفوذ والسيادة ميدانياً، أو الاتجاه إلى ترتيبات جديدة لحماية القيادات. وبخلاف الترتيبات التي قد يلجأ إليها التنظيم، يُتوقع إقدام مجموعات “داعش” على تكثيف عمليات جمع المعلومات في المناطق التي يواصل اختراقها أمنياً في شمال شرق سوريا، للبحث عن المتعاونين مع القوات الأمريكية أو قوات “قسد”، وسبق أن أعلن التنظيم أكثر من مرة عن قتل مدنيين بعد وصفهم بـ”الجواسيس”.
3- تكرار العمليات بمناطق النظام السوري: لم يعلق النظام السوري على العملية الأمريكية في مناطق سيطرته التي استهدفت الشمري، رغم تناقل وسائل إعلام سورية خبر الغارة الأمريكية. وربما عدم التعليق يُشجع القوات الأمريكية على مواصلة استهداف قيادات التنظيم في مناطق سيطرة النظام السوري، ولكن من غير المتوقع التوسع في هذه الخطوة، في ضوء انتشار مليشيات إيرانية تتقاسم السيطرة مع قوات “قسد” في بعض المحافظات. ولا يبدو أن القوات الأمريكية سوف تُقدم على تنفيذ عمليات إنزال جوي في بيئات ترتفع فيها احتمالية مقاومة القوات المشاركة، إذ تخضع العمليات إلى تقييم قبل التنفيذ.
4- استهداف مليشيات إيرانية للقوات الأمريكية: قد يؤدي التوغل الأمريكي باتجاه مناطق تخضع لسيطرة النظام السوري ومليشيات إيرانية موالية له، إلى استهداف القوات الأمريكية في القواعد العسكرية باستخدام صواريخ. إذ أعلنت الولايات المتحدة أكثر من مرة خلال الأشهر القليلة الماضية، استهداف قواعدها بصواريخ. وتشير أصابع الاتهام إلى مليشيات موالية لإيران، ومع العملية الأخيرة خارج مناطق سيطرة قوات “قسد”، والتخوف من إمكانية تكرارها، قد توجه تلك المليشيات ضربات محدودة، كنوع من الرد على التحركات الأمريكية.
تحجيم التنظيم
وأخيراً، فإنه من المتوقع أن تواصل الولايات المتحدة العمليات بالتنسيق مع قوات “قسد” خلال الفترة المقبلة، من أجل مزيد من الضغط على تنظيم “داعش” وشبكاته في شمال شرق سوريا، لتحجيم النشاط العملياتي بشكل أكبر، وكان أحد مؤشرات ذلك زيارة قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال إريك كوريلا إلى مخيم الهول، في سبتمبر 2022، إضافة إلى تصريحاته تعليقاً على مقتل نائب والي “داعش” بسوريا، بالتأكيد على أن “هذه الضربة ستضعف قدرة داعش على زعزعة استقرار المنطقة وضرب قواتنا وشركائنا”.