استحقاقات متباينة:
تحوّلات هيكلية في مسارات الصراعات والتسويات الإقليمية في 2023

استحقاقات متباينة:

تحوّلات هيكلية في مسارات الصراعات والتسويات الإقليمية في 2023



بشكلٍ عام، ساد مؤشر تراجع حدة الصراعات الإقليمية خلال عام 2022 في دول الأزمات الرئيسية، مثل ليبيا واليمن وسوريا والعراق، رغم أنها لم تشهد نقلة نوعية في عملية التسوية، حيث لم يتم إجراء الانتخابات في ليبيا، والتي كانت تُمثل محوراً هاماً في عملية الانتقال السياسي، في حين ظل التصعيد في اليمن منحصراً على الجبهة الداخلية في ظل إقرار هدنة استمرت لنصف عام تقريباً، ومع انهيارها لم تستأنف عملية التصعيد الخارجي من جانب الحوثيين، بينما شهدت العراق تصعيداً بين المكونات السياسية، غير أن عملية تشكيل الحكومة بعد مخاض عسير كانت علامة على تراجع الانزلاق إلى حرب أهلية. أما المناطق الساخنة في شمال سوريا، فقد ارتبطت تطوراتها بالتصعيد الكردي-التركي، وتكثيف استهداف إسرائيل ضرباتها للحد من عملية نقل إيران للأسلحة.

قد تشير هذه الخريطة إلى أن هناك مناطق مرشحة للانفجار في الإقليم في عام 2023، بخلاف مناطق التصعيد الرئيسية، على نحو ما تبلور في التصعيد من جانب إيران وتركيا مع الأكراد، في كل من العراق وسوريا. وقد تكون لبنان واحدة من البؤر الساخنة في ظل تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية، وتشابكاتها مع الوضع السوري. لكن إجمالاً من المتصور أن الظاهرة الرئيسية التي قد يكون الإقليم مقبلاً عليها بشكل عام هي التحولات الهيكلية في الصراعات والأزمات، التي تجعلها متأرجحة ما بين العودة إلى التصعيد، أو الدخول في صفقات تسوية في بعض الملفات.

متغيرات رئيسية

على ضوء ذلك، يمكن القول إن ما سيحدد مسار هذه التحولات قيد التشكل نمط التفاعلات المحتمل في بعض بيئات الصراعات والأزمات، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1- استمرار تعادل موازين القوى: وهو ما تعكسه تطورات الملف اليمني، حيث لم تتشكل الإرادة السياسية لدى أطراف الأزمة، ولا سيما من الجانب الحوثي، في التحول نحو عملية تسوية سياسية، إذ لا تزال تواصل العمل على تعزيز تواجدها في مناطق السيطرة، مع محاولات التمدد على حساب مناطق نفوذ الحكومة الشرعية. لكنها -في الوقت ذاته- تسعى إلى إبرام صفقة لتقاسم عوائد النفط، وتضغط سياسياً وتصعد عسكرياً في هذا الاتجاه تحت عنوان حل أزمة ملف رواتب الموظفين، وقد تتجه إلى افتعال أزمات جديدة لتهديد حركة الملاحة البحرية في ظل القيود التي تفرضها القيادة الوسطى الأمريكية بالتعاون مع بعض القوى الإقليمية للحد من تهريب الحرس الثوري الإيراني الأسلحة إلى اليمن.

وبينما صنفت الحكومة اليمنية الحركة الحوثية تنظيماً إرهابياً، إلا أنها ستظل خطوة محدودة طالما لم تتوازَ مع خطوة دولية مشابهة، في حين أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تُقْدم على هذه الخطوة ربما لمنح المسار السياسي المزيد من الفرص، كما أنها لم تضع سقفاً زمنياً لتغيير موقفها إن لم تستجب الحركة الحوثية لرغبة القوى الدولية والعديد من القوى الإقليمية في الانخراط في عملية سياسية، وبالتالي ستظل تصعد داخلياً، لكن في حال التوصل إلى صفقة اقتصادية بوساطة عمانية فقد يتراجع مسار التصعيد دون انتهائه بشكل عام. ومن ثم يمكن القول إن المتغير الهيكلي في الأزمة هو دوافع التصعيد، التي يعد العامل الاقتصادي أبرزها حالياً، ومع ذلك قد يتطور التصعيد في أي لحظة ولا سيما على المسرح البحري إذا ما لجأت إيران لهذه الورقة مجدداً كنوع من الضغط في ملف المفاوضات النووية المتأرجح، لكن على الأقل أصبحت هناك معادلة توازن شبه مستقرة في ترسيم مناطق السيطرة والنفوذ بين الفاعلين المحليين، ومن الصعوبة بمكان تحقيق اختراق جديد فيها.

2- احتمالات حدوث اختراقات سياسية: ينتهي عام 2022 بينما لا يزال الوضع السياسي الليبي هشاً إلى درجة كبيرة، وكاد الانقسام السياسي بين حكومتين في الشرق والغرب يشعل فتيل الحرب الأهلية مجدداً، لكن من غير المتصور العودة إلى نموذج الحرب الأخيرة للسيطرة على طرابلس، ولا سيما مع تطور خطاب القيادة العامة للجيش الوطني باتجاه اعتماد الآلية السياسية كبديل لحل الأزمة، بدلاً من اللجوء إلى القوة العسكرية. وقد يشير هذا المسار إلى طبيعة المتغير الهيكلي في الأزمة بامتلاك بعض الأطراف القدرة على الإرغام لدفع القوى المعنية بالتسوية السياسية (مجلسي النواب والدولة) لوضع قاعدة دستورية للانتخابات.

لكن إلى جانب ذلك، قد تكون الأزمة مرشحة لنوع آخر من التوتر الأمني على خلفية محاولة استبعاد سيف الإسلام القذافي من المشهد السياسي، في ظل الضغوط التي يتعرض لها ومنها المحاكمة في الداخل أو الخارج، وزاد من حدة هذه النقطة تسليم أبو عجيلة مسعود للولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن وجود مؤشرات لتسليم آخرين. صحيح أنه تم التراجع عن تسليم أحد أبرز تلك القيادات في عهد القذافي وهو عبدالله السنوسي، إلا أن التوتر في هذه الجزئية لا يزال وارداً، ويضاف إلى ما سبق أنه لا يزال من غير المعروف ما هو شكل الإجراءات التي تعين اتخاذها لوضع ملف الانتخابات والتسوية على المسار التنفيذي، في ظل حالة الغليان الجماهيري التي تتصاعد على إثر تراجع الثقة في المؤسسات إلى الحد الأدنى غير المسبوق منذ بدء الأزمة الليبية. أما على مستوى إدارة الملفات الخارجية، فمن المتوقع أن يظل ملف الطاقة هو الأكثر سخونة، إلا أنّ احتمالات أن يؤدي إلى التصعيد غير واردة في ظل حذر القوى الإقليمية والدولية من الانزلاق لهذه النقطة.

3- إعادة هندسة مناطق السيطرة والنفوذ: على نحو يبدو جلياً في تطورات الملف السوري، إذ تتمثل نقطة التحول الرئيسية التي واكبت الأسبوع الأخير من نهاية عام 2022 في التقارب السوري-التركي برعاية روسية، في ضوء اللقاء الأول من نوعه الذي جمع وزراء دفاع الدول الثلاث منذ سنوات، والذي عقد في موسكو في 28 ديسمبر الجاري.

ربما قد تستغرق عملية التقارب بعض الوقت، لكن على الأرجح في حال نجاح الجهود الروسية لجمع الطرفين السوري والتركي فسوف تتم إعادة هندسة مناطق النفوذ والسيطرة في سوريا، بعد أن كانت قد وصلت إلى نقطة استقرار نسبي، لكن هذا التطور سيكون على حساب مناطق النفوذ الكردي، بالإضافة إلى الوجود العسكري الأمريكي الذي جرى تعزيزه نسبياً في الوقت ذاته.

ومع ذلك، من المتوقع استمرار تكثيف الضربات الإسرائيلية على الساحة السورية، ولا سيما مع عودة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة، بالإضافة إلى استهداف تواجد حزب الله اللبناني، في الوقت الذي تتصاعد فيه التوترات في الساحة اللبنانية. صحيح أن حزب الله مرر صفقة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، إلا أن مسار إعادة انتشار الحزب في المناطق الحدودية مع إسرائيل قد يعيد تشكيل معادلة الاشتباك بين الطرفين، وبالتالي أصبح هناك ارتباط ما بين الساحتين السورية واللبنانية من هذه الزاوية.

4- تصاعد الضغوط على بعض القوى الإقليمية: لا يمكن تجاهل تأثير الأوضاع الداخلية في إيران على الحالة الأمنية في الإقليم، خاصة بالمناطق الساخنة التي تتورط فيها إيران، كالعراق وسوريا واليمن. فقد تراجع التصعيد الإيراني في إقليم كردستان العراق، لكن لا توجد ضمانات لعدم تجدده، كما أن استمرار الاحتجاجات الداخلية في إيران يدفع طهران إلى المناورة ما بين تسخين بعض الجبهات الإقليمية وتهدئة أخرى.

ويبدو تأثير هذه الضغوط أيضاً جلياً في حالة تركيا،حيث لا يمكن تجاهل أن التصعيد التركي ضد الأكراد في سوريا والعراق، يرتبط باستحقاقات سياسية رئيسية، خاصة أن عام 2023 هو العام الذي سوف تجرى فيه الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية.

سيناريوهات متعددة

على هذا النحو، من المتصور أن اليمن ستظل البؤرة الأكثر سخونة في الإقليم، حيث لا تزال منطقة النزاع الإقليمية التي لم تدخل بعد مسار التسوية الفعلية. وربما تكون ليبيا مرشحة لتحسن الوضع السياسي، مما قد ينعكس على الوضع الأمني دون طفرة كبيرة في مؤشرات تحسن البيئة الأمنية، خاصة وأنه لم تُتخذ بعد خطوات تنفيذية في أكثر الملفات تعقيداً وهو التواجد العسكري الأجنبي. في حين أن التقارب السوري-التركي سيرسم ملامح جانب رئيسي من الملف السوري.