إعادة تموضع:
تحولات السياسة الأمريكية في المنطقة بعد عام على سقوط كابول

إعادة تموضع:

تحولات السياسة الأمريكية في المنطقة بعد عام على سقوط كابول



نفذ الرئيس الأمريكي جو بايدن ما تعهد به خلال حملته للانتخابات الرئاسية لعام ٢٠٢٠ بإنهاء الحروب اللا نهائية التي خاضتها الولايات المتحدة في أعقاب أحداث 11 سبتمبر ٢٠٠١، حيث صمم على قراره بسحب كافة الجنود الأمريكيين من أفغانستان بعد عقدين من حرب أمريكية مكلفة مالياً وبشرياً، لينسحب آخر جندي في ٣١ أغسطس 2021، ولم يستجب لنصائح كبار مسئولي وزارة الدفاع بضرورة إبقاء عدد من الجنود الأمريكيين على الأراضي الأفغانية لضمان عدم تحولها مرة ثانية لملاذ آمن للتنظيمات الإرهابية وشن هجمات ضد الولايات المتحدة وحلفائها. وخلال كلمته بقمة جدة للأمن والتنمية، في ١٦ يوليو الفائت، أشار بايدن إلى أن “هذه أول مرة يزور فيها رئيس أمريكي المنطقة بدون أن تكون القوات الأمريكية مشاركة في مهمة قتالية في المنطقة منذ هجمات ١١ سبتمبر”.

تغييرات رئيسية

رغم العديد من الانتقادات التي يوجهها الجمهوريون للرئيس بايدن بعد عام من سقوط العاصمة الأفغانية كابول تحت سيطرة حركة “طالبان”، وفشل إدارته في التخطيط لعملية الانسحاب الأمريكي من أفغانستان؛ فإن الإدارة أجرت بعض التغييرات الرئيسية في سياستها تجاه منطقة الشرق الأوسط بما يخدم توجهاتها الاستراتيجية لإعادة التموضع فيها بالتوازي مع استمرار اتجاهها نحو آسيا، ومواجهة الصعود الصيني في منطقة الإندوباسيفيك، ومن أبرز تلك التغييرات ما يلي:

١- استهداف قيادات التنظيمات الإرهابية: بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، تعهد الرئيس بايدن بمواصلة العمل على التصدي للتهديدات الإرهابية من أفغانستان وحول العالم. وبالفعل نجحت الإدارة الأمريكية، بدون وجود قوات عسكرية أمريكية على الأرض، في استهداف عدد من قيادات التنظيمات الإرهابية من خلال الطائرات من دون طيار أو بوحدات من الكوماندوز، مع تجنب أخطاء العمليات العسكرية السابقة التي كانت تُخلِّف إصابات بين المدنيين. ففي 3 فبراير الماضي، تم استهداف الزعيم الثاني لتنظيم “داعش”، أبو إبراهيم الهاشمي القرشي. وفي 12 يوليو الفائت، نجحت الولايات المتحدة في اغتيال ماهر العقال زعيم تنظيم “داعش” ونائبه في سوريا. وأخيراً، تم استهداف زعيم تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري، في ٣٠ من الشهر نفسه، في عملية أعلن الرئيس بايدن، خلال كلمته في ٢ أغسطس الجاري، أنه تم التخطيط لها بعناية، بحيث لم يصب أي من أفراد عائلته، ولم تقع إصابات بين المدنيين كما كان يحدث في السابق عند استهداف قيادات التنظيمات الإرهابية.

٢-إضعاف نفوذ تنظيم “القاعدة”: كانت هناك مخاوف أمريكية من أن عملية الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ستؤدي إلى تعزيز نفوذ تنظيم “القاعدة”، المسئول عن أحداث سبتمبر الإرهابية، مجدداً. وقد دعم من هذه المخاوف اختباء الظواهري قبل اغتياله في مبنى بوسط العاصمة الأفغانية وبمعرفة حركة “طالبان” بحسب التصريحات الرسمية الأمريكية. لكنّ تقييماً استخباراتياً أُعدّ بعد اغتيال الظواهري كشف أن التنظيم لم يُعِد تشكيل وجوده في أفغانستان منذ أن غادرت جميع القوات الأمريكية البلاد في أغسطس الماضي، وأن أعضاء التنظيم في أفغانستان ليسوا متورطين في التخطيط لهجوم خارجي، وأن التنظيم لم تعد لديه القدرة على شن هجمات ضد الولايات المتحدة أو مصالحها في أفغانستان. إلا أن بعض كبار المسئولين في وكالات الاستخبارات ووزارة الدفاع الأمريكية يعارضون هذا التقييم الاستخباراتي، ويؤكدون أن التنظيم يمكن أن يعيد تجميع عناصره في أفغانستان ويشكل تهديداً لواشنطن وحلفائها في غضون عام أو عامين.

٣- تعزيز الدور الاستشاري للقوات الأمريكية: رغم وجود قوات أمريكية في منطقة الشرق الأوسط، إلا أنه حدث تحول في مهامها من الاشتراك الكلي في المهام القتالية لمواجهة التنظيمات الإرهابية، إلى القيام بعمليات محدودة، وبصورة خاطفة ضد قيادات التنظيمات الإرهابية، والعمل من خلال الشركاء المحليين ومعهم لتنفيذ عمليات عسكرية ضد تنظيم “داعش” في العراق وسوريا، بجانب تقديم الاستشارات والتدريبات للقوات الوطنية بهدف تعزيز قدراتها لمكافحة الإرهاب.

فمع موافقة الرئيس بايدن، في ١٦ مايو الماضي، على طلب وزارة الدفاع الأمريكية لإعادة تأسيس وجود مستمر للقوات الأمريكية في الصومال، في تراجع عن قرار سلفه دونالد ترامب، في ديسمبر ٢٠٢٠ بسحب نحو ٧٠٠ جندي أمريكي من الصومال، قال المتحدث السابق باسم البنتاجون جون كيربى أن القوات الأمريكية لن تشارك في العمليات القتالية ضد حركة “الشباب”، ولكنها قد تشن عدداً صغيراً من الغارات الجوية ضد الحركة، وتقدم المشورة والمساعدة للصوماليين وبعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال، أثناء عمليات مكافحة الإرهاب.

٤- التحول من “بناء الدولة” إلى ضمان الاستقرار: مع تجلي حدود قدرات الولايات المتحدة بعد عقدين من التواجد بأفغانستان والعراق منذ ٢٠٠٣ في بناء الدول، واستخدام القوة العسكرية في نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ أضحت الإدارة الأمريكية أكثر تركيزاً على أهداف ضمان الاستقرار والأمن في منطقة الشرق الأوسط. وقد شهدت الأشهر الماضية انخراطاً دبلوماسياً من قبل الإدارة الأمريكية في قضايا وأزمات المنطقة، وخفض التصعيد الإقليمي، وتعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي وكذلك الدفاعي بين الولايات المتحدة وشركائها الإقليميين، والتأكيد على الالتزام الأمريكي بردع كافة التهديدات الخارجية للأمن الإقليمي، وضمان سلامة الملاحة في الممرات المائية الحيوية وخاصة في مضيق هرمز وباب المندب، وممارسة دور في استمرار الهدنة وفض الاشتباك في العديد من أزمات المنطقة.

٥- التركيز على قضايا غير عسكرية: في ظل سعى الإدارة الأمريكية لإحداث تحول في مقاربات الإدارات الجمهورية والديمقراطية السابقة التي كانت تركز سياساتها تجاه المنطقة على الجانب العسكري، أولت الإدارة الديمقراطية الحالية أهمية للقضايا غير العسكرية وفي مقدمتها مساعدة دول المنطقة على التعافي من تداعيات جائحة كوفيد-١٩، والاستعداد للأوبئة المستقبلية، ومعالجة أزمة الأمن الغذائي في عديد من دول المنطقة بعد الحرب الروسية-الأوكرانية، وضمان مرونة سلاسل التوريد، وتعزيز الشراكات الأمريكية مع دول المنطقة في الطاقة المتجددة والتكنولوجيا، ومواجهة آثار تغير المناخ، ودعم الدول المحتاجة من خلال المساعدات الإنسانية والإنمائية.

منافسة الخصوم

يُواجَه التحول الذي أحدثته الإدارة الأمريكية في سياستها تجاه المنطقة خلال العام الأول من انسحابها من أفغانستان، بتحدي تنامي نفوذ ودور روسيا والصين في المنطقة، واستغلالهما عملية الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وحالة عدم الثقة التي أبدتها بعض دول وشعوب المنطقة في واشنطن والتزاماتها الأمنية التقليدية، لتعزيز نفوذهما ودورهما في المنطقة.

ورغم إعلان الرئيس بايدن خلال زيارته الأولى للمنطقة، خلال الفترة من ١٣ إلى ١٦ يوليو الفائت، أن الولايات المتحدة لن تنسحب من الشرق الأوسط وتترك فراغاً تملؤه روسيا والصين وإيران، فإن فوضى ومشاهد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان دفعت عديداً من دول المنطقة لتعزيز شراكاتها وتعاونها مع موسكو وبكين، وهو ما اتضح في تبني معظم دول المنطقة موقفاً محايداً أو مُعارِضاً للخطوات التي اتخذتها الولايات المتحدة لعزل روسيا دولياً، وفرض الكثير من العقوبات عليها في أعقاب عملياتها العسكرية ضد أوكرانيا، وكذلك تبني مواقف مُعارِضة للتحركات الأمريكية في عديد من الملفات الدولية، ولا سيما سياستها لمواجهة الصعود والنفوذ الصيني المتنامي في المنطقة وحول العالم.