اقتراب حذِر:
تحولات السياسة الأمريكية بالمنطقة في العام الأول لإدارة بايدن

اقتراب حذِر:

تحولات السياسة الأمريكية بالمنطقة في العام الأول لإدارة بايدن



أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن، خلال حملته الانتخابية، أنه سيتبنى نهجاً مغايراً لذلك الذي اتبعه الرئيس السابق دونالد ترامب، لأنه مثّل، في رؤيته، قطيعة مع سياسات تقليدية أمريكية ترجع إلى عقود عديدة. كما تعهد بمراجعة السياسة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط. وبعد أن وصل إلى البيت الأبيض، في 20 يناير الماضي، قام بتعيين العديد من المسئولين الذين لديهم خبرة طويلة بشئون المنطقة. لكن رغم أن الرئيس بايدن نجح، خلال عامه الأول في البيت الأبيض، في تحقيق بعض ما وعد به في حملته الانتخابية، إلا أن السياسات التي اتبعتها إدارته في بعض الملفات الرئيسية لم تحقق نتائج مماثلة بل إنها أنتجت في النهاية تداعيات سلبية.

سمات عديدة

اتسمت السياسة الأمريكية خلال العام الأول من فترة الرئيس بايدن بخصائص عديدة يتمثل أبرزها في:

1- إتباع نهج واقعي في الشرق الأوسط: منذ أحداث 11 سبتمبر ٢٠٠١، كانت منطقة الشرق الأوسط على رأس أولويات الإدارات الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة. وقد وضعت تلك الإدارات مجموعة من الأهداف الكبرى لسياساتها في المنطقة، كان في مقدمتها تغيير بعض الأنظمة السياسية في إطار ما يسمى بـ”عملية إعادة بناء الأمم”. لكن إدارة بايدن تبنت، منذ اليوم الأول له في البيت الأبيض، سياسة أكثر واقعية تجاه منطقة الشرق الأوسط وأزماتها في سعىٍ واضح لتقليل الانخراط الأمريكي في شئون المنطقة والتركيز بشكل أكبر على اهتمامات وقضايا الداخل الأمريكي، فضلاً عن مواجهة النفوذ الصيني والروسي في أقاليم مختلفة من العالم.

وفي مقابل الأفكار الكبرى التي تبنتها الإدارة الأمريكية السابقة، فإن إدارة بايدن، في ظل تغير أولويات سياستها الخارجية، ركزت على إعادة بناء التحالفات الأمريكية مع دول المنطقة، وخفض التصعيد في أزماتها من خلال الآلية الدبلوماسية. وهنا يتحدث بعض مسئولي الإدارة عن إسهامها في التوصل إلى تهدئه سريعة بمساعدة حلفائها في المنطقة للتصعيد العسكري بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية الذي استمر لمدة ١١ يوماً في مايو الماضي، بينما استمرت المواجهة العسكرية التي اندلعت بين حركة “حماس” وإسرائيل في عام 2014 لمدة ٥0 يوماً، وهو ما يعود إلى الدبلوماسية الهادئة والعملية للرئيس بايدن وفقاً لأحد مسئولي الإدارة. بجانب دعم الحوار بين الدول المتصارعة بما يساعد في تهدئة الحروب بالوكالة في المنطقة، والوصول إلى تسويات للصراعات المشتعلة فيها. وتضيف اتجاهات أخرى إلى هذا النهج الواقعي تراجع ملف حقوق الإنسان في أولويات الإدارة في تعاملها مع أزمات المنطقة.

2- دعم جهود تحقيق الاستقرار في العراق: كان لافتاً أن الإدارة الحالية حرصت على الترويج إلى أنها ورثت وضعاً مأزوماً في العراق بعد الضربة العسكرية الأمريكية التي أسفرت عن مقتل قائد “فيلق القدس” الإيراني قاسم سليماني في 3 يناير ٢٠٢٠، على نحو أدى إلى تصاعد حدة الهجمات العسكرية ضد المنشآت والأفراد الأمريكيين في العراق بشكل كبير. وقد تعاملت الإدارة مع ذلك التحدي بشن ضربات جوية ضد منفذي هذه الهجمات، وهو ما توازى مع ترحيبها بالجهود التي تبذل لإعادة إدماج العراق في محيطها العربي والاستثمار في المؤسسات العراقية، ودعم إجراء الانتخابات العراقية، التي ينظر إليها على أنها من أنجح الانتخابات التي أجريت منذ الغزو الأمريكي للعراق في مارس ٢٠٠٣. 

3- الحفاظ على “التهدئة” في الأزمة السورية: مع تراجع حدة الصراع العسكري في سوريا، فإن الإدارة الأمريكية عملت على تأمين ذلك من خلال نهج دبلوماسي كان يهدف إلى تحقيق الالتزامات بوقف إطلاق النار في جميع أنحاء الأراضي السورية، مع الحفاظ على الوجود العسكري الأمريكي، الذي يصل إلى ٩٠٠ جندي، لمواجهة محاولات تنظيم “داعش” للعودة مجدداً، بالتوازي مع استمرار الاهتمام بإيصال المساعدات الإنسانية للسوريين، وعدم التنازل عن أى عقوبات مفروضة على النظام السوري.

4- منع ظهور “دول فاشلة” جديدة: ركزت السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية الحالية على منع ظهور المزيد من “الدول الفاشلة” في الشرق الأوسط، حيث يوفر ذلك فرصة للتنظيمات الإرهابية من أجل توسيع نطاق نفوذها، كما يساهم في تحويل تلك الدول إلى ساحات لمعارك وحروب بالوكالة بين القوى الإقليمية. ‏ولهذا تسعى الإدارة الأمريكية إلى منع انهيار الدولة اللبنانية من خلال العمل مع حلفائها وفرض عقوبات على عدد من السياسيين اللبنانيين المتهمين بعرقلة العملية السياسية والفساد، ودعم ‏الحكومة الجديدة برئاسة نجيب ميقاتي.

5- تقليص الوجود العسكري في المنطقة: كان الرئيس بايدن، خلال حملته الانتخابية، قد تعهد بإنهاء انخراط القوات الأمريكية في الصراعات الخارجية، والحروب الأمريكية “الأبدية”، على نحو وضعه أمام خيارين في أفغانستان: أولهما، تنفيذ الاتفاق الذي أبرمته الإدارة السابقة مع حركة “طالبان” والذي قضى بانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان وإنهاء الحرب التي شنتها إدارة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، في أعقاب أحداث 11 سبتمبر الإرهابية والتي استمرت لعِقدين. وثانيهما، إرسال المزيد من الجنود الأمريكيين إلى أفغانستان للسيطرة على الحرب الأهلية. إلا أنه قرر في النهاية الانسحاب رغم معارضة العديد من المسئولين العسكريين لذلك حتى لا تضطر واشنطن للانخراط مجدداً في حرب أهلية أفغانية لعِقد ثالث. وبالفعل انسحب آخر جندي أمريكي من أفغانستان في ٣١ أغسطس الماضي، قبل حلول الذكر العشرين لأحداث سبتمبر الإرهابية، التي كانت الدافع الرئيسي للحرب الأمريكية العالمية على الإرهاب.

تداعيات سلبية

رغم ذلك، فإن بعض القرارات التي اتخذتها الإدارة الأمريكية فرضت في النهاية نتائج عكسية وتداعيات سلبية، وهو ما يمكن تناوله في التالي:

1- تعثر المفاوضات مع إيران: أعلن الرئيس بايدن، منذ وصوله إلى البيت الأبيض، عن معارضته القرار الذي اتخذته إدارة ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي لعام ٢٠١٥، في إطار استراتيجية “الضغوط القصوى” التي اتبعتها ضد إيران، لكونها فشلت في احتواء نفوذ الأخيرة في بعض الدول المجاورة لها، وأدت إلى اقترابها من مرحلة امتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية. ولذلك، تعهد بايدن بإتباع نهج دبلوماسي لعودة إيران للاتفاق مجدداً. إلا أن جهود الإدارة فشلت – حتى الآن – رغم استمرار جولات التفاوض في فيينا، وهو ما دفعها للتلويح بأنها بصدد دراسة بدائل أخرى بعد تعثر المفاوضات.

‏وتشير تحليلات أمريكية إلى أنه منذ تولي الرئيس بايدن مقاليد منصبه، أصبحت سياسة إيران أكثر تهديداً لأمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط والمصالح الأمريكية في المنطقة، مستندة في هذا الصدد إلى شن وكلائها هجوماً مسلحاً، في 20 أكتوبر الماضي، بواسطة طائرات من دون طيار على قاعدة “التنف” السورية التي تتواجد بها قوات أمريكية. كما تصاعدت الهجمات التي تتعرض لها القوات الأمريكية في العراق بالتزامن مع حلول الذكرى الثانية لمقتل قاسم سليماني في 3 يناير الجاري.

2- الإضرار بصورة الحليف الأمريكي: تعرَّضت الإدارة الحالية لانتقادات قوية على الساحتين الداخلية والخارجية بسبب إدارة عملية انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، والتي مهَّدت المجال، في رؤية اتجاهات عديدة، أمام عودة حركة “طالبان” للسيطرة على الحكم في ١٥ أغسطس الماضي، وانهيار الجيش الأفغاني المدعوم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. إذ كشف ذلك عن مدى إخفاق المقاربة الأمريكية الخاصة بقدرة القوات المسلحة الأمريكية على خوض حربين في الوقت نفسه والانتصار فيهما، كما أدى إلى اهتزاز ثقة حلفاء واشنطن بالمنطقة في قدرتها على الوفاء بالتزاماتها الأمنية تجاههم، على نحو دفعهم إلى السعى من أجل توسيع نطاق الخيارات المتاحة أمامهم على الساحة الدولية.

3- عودة التنظيمات الإرهابية إلى أفغانستان: مع انتهاء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، لم يستبعد المسئولون الأمريكيون أن تتحول مرة أخرى إلى ملاذ آمن للتنظيمات الإرهابية، ولاسيما مع تزايد العمليات الإرهابية التي ينفذها تنظيم “داعش خراسان” في أفغانستان، والتي أودت إحداها بحياة ١٣ جندياً أمريكياً في هجوم نفذه التنظيم في ٢٦ أغسطس الماضي. وفي جلسة استماع عقدت بلجنة الخدمات المسلحة بمجلس الشيوخ الأمريكي، في ٢٨ سبتمبر الماضي، حذّر رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي، وقائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال فرانك ماكنزي من أن علاقة حركة “طالبان”، التي تعتبر من وجهة النظر العسكرية منظمة إرهابية، مع تنظيم “القاعدة” لم تنقطع خلال الفترة الماضية، وتوقع ميلي أن تتزايد تهديدات تنظيمى “القاعدة” و”داعش” للولايات المتحدة الأمريكية في العام الجاري.

نهج متواصل

كشفت السياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، مع قرب نهاية العام الأول للرئيس بايدن في البيت الأبيض، عن تركيز واشنطن على إدارة الوضع الراهن بدلاً من حل النزاعات، حيث الاهتمام بالملفات التي تؤثر على المصالح والأمن القومي الأمريكي بشكل أساسي. ومع استمرار منح الأولوية للقضايا الداخلية المُلِحَّة مثل إنهاء حالة الانقسام السياسي الداخلي وإصلاح النموذج الديمقراطي الأمريكي، وانتخابات التجديد النصفي للكونجرس المقرر لها في نوفمبر القادم، ومواجهة النفوذين الصيني والروسي، فإن سياسات الإدارة الديمقراطية الحذِرة تجاه المنطقة لن تشهد، على الأرجح، تغييرات بارزة في عام 2022 ما لم يحدث تحول كبير يهدد أمن الأمريكيين.